الحمد لله الواهب المقتدر ربُ العالمين، والصلاة والسلام على من أنزل عليه كتاب معجز محفوظ إلى يوم الدين. أما بعد: قال أبو يزيد البسطامي (ت:261 هـ): (الجنةُ لا خطر لها عندَ أهلِ المحبةِ، وأهلُ المحبةِ محجوبون بمحبتِهم)([1])، وهذا الكلام شاع بين الصوفية قبل أبي نصر السراج الطوسي (ت:378هـ) بقرنين تقريبًا، عندما اشتهر بينهم قولُ رابعة العدوية، من نساء الصوفية (ت:185هـ): (ما عبدتُك خوفًا من نارِك، ولا طمعًا في جنتِك، ولكن حبًّا لذاتك) ([2])، وقال أبو القاسم النصرباذي (ت:367هـ): (إذا بدا لك شيءٌ من بوادي الحقِّ، فلا تلتفت معه إلى جنةٍ ولا إلى نار، ولا تخطرهما ببالك، وإذا رجعت عن ذلك الحال فعَظِّمْ ما عَظَّمَه اللَّه تعالى)([3]).
وقد ثبت في السنة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيَّن الغاية من محصول أفعاله، وأنها تدور حول طلب الجنة والنجاة من عذاب النار؛ دلَّ على ذلك ما ذكره مُعَاذ بن رِفَاعَة الأَنْصَارِي رضي الله عنه، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، يُقَالُ لَهُ: سُلَيْمٌ أَتَى رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّه، إِنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَأْتِينَا بَعْدَمَا نَنَامُ وَنَكُونُ فِي أَعْمَالِنَا بِالنَّهَارِ، فَيُنَادِي بِالصَّلاةِ، فَنَخْرُجُ إِلَيْهِ فَيُطَوِّلُ عَلَيْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ، لا تَكُنْ فَتَّانًا، إِمَّا أَنْ تُصَلِّيَ مَعِي، وَإِمَّا أَنْ تُخَفِّفَ عَلَى قَوْمِكَ، ثُمَّ قَالَ: يَا سُلَيْمُ، مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: إِنِّي أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَاللَّهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتكَ وَلا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: وَهَلْ تَصِيرُ دَنْدَنَتي وَدَنْدَنَةُ مُعَاذٍ إِلا أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنّةَ وَنَعُوذَ بِهِ مِنَ النَّارِ))([4]).
وهذا التوهم والإشكال عندهم منبعه من تلك المقولة الخاطئة المشتهرة: "لا نعبد اللهَ خوفًا من نارِه، ولا طمعًا في جنتَه، بل نعبده حبًّا له"!! وبعضهم يذكرها بصيغة أخرى مفادها: أنه من عبدَ اللهَ خوفًا من ناره فهي عبادةُ العبيدِ، ومن عَبَدَه طمعًا في جنته فهي عبادةُ التجار، وزعموا أن العابد هو من عَبَدَه حبًّا له تعالى!!
وأيًّا كانت العبارة، أو الصيغة التي تحمل تلك المعاني، وأيًّا كان قائلها؛ فإنها خطأ، وهي مخالفة للشرع المطهَّر، ويدل على ذلك:
1- أنه ليس بين الحب والخوف والرجاء تعارض.
2- أن العبادة الشرعية عند أهل السنَّة تشمل المحبة والتعظيم، والمحبة تولِّد الرجاء، والتعظيم يولِّد الخوف.
3- أن عبادة الأنبياء والعلماء والأتقياء تشتمل على الخوف والرجاء، ولا تخلو من محبة، فالذي يريدُ أن يعبدَ الله تعالى بإحدى ذلك فهو مبتدع، وقد يصل الحال به للكفر؛ قال الله تعالى - في وصف حال المدعوين من الملائكة والأنبياء والصالحين -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57].
وقال الله تبارك وتعالى - في وصف حال الأنبياء -: {إِِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، قال ابن جرير الطبري - رحمه الله -: (ويعنى بقوله {رَغَبًا}: أنهم كانوا يعبدونه رغبةً منهم فيما يرجون منه من رحمتِه وفضلِه، {وَرَهَبًا} يعني: رهبةً منهم؛ من عذابِه وعقابِه، بتركهم عبادتِه وركوبهم معصيتِه)([5]).
وقال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: (وقولُه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي: في عملِ القُرُبات، وفعلِ الطاعات، {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} قال الثوري: {رَغَبًا} فيما عندنا، {وَرَهَبًا} مما عندنا، {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي: مصدِّقين بما أنزلَ اللهُ، وقال مجاهد: مؤمنين حقًّا، وقال أبو العالية: خائفين، وقال أبو سِنَان: الخشوعُ هو الخوفُ اللازمُ للقلبِ لا يفارقه أبدًا، وعن مجاهد أيضًا: {خَاشِعِينَ} أي: متواضعين، وقال الحسن، وقتادة، والضحاك: {خَاشِعِينَ} أي: متذللين لله عز وجل، وكلُّ هذه الأقوال متقاربة)([6]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (قال بعضُ السلفِ: مَن عَبَدَ اللهَ بالحبِّ وحدَه فهو زنديقٌ، ومَن عَبَدَه بالخوفِ وحدَه فهو حروريٌّ - أي: خارجي -، ومَن عبَدَه بالرجاءِ وحده فهو مرجئٌ، ومن عَبَدَه بالحبِّ والخوفِ والرجاءِ فهو مؤمنٌ موحد)([7]).
4- اعتقادهم أن الجنة هي الأشجار والأنهار والحور العين، وغفلوا عن أعظم ما في الجنة مما يسعى العبدُ لتحصيله؛ وهو رؤية الله تعالى، والتلذذ بذلك، والنار ليست هي الحميم والسموم والزقوم، بل هي غضب الله وعذابه والحجب عن رؤيته عز وجل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (ومِن هنا يتبين زوالُ الاشتباه في قولِ مَن قال: "ما عبدتُك شوقًا إلى جنَّتك، ولا خوفًا من نارِك، وإنما عبدتك شوقًا إلى رؤيتك"؛ فإن هذا القائل ظنَّ هو ومَن تابعَه أن الجنةَ لا يدخلُ في مسماها إلا الأكل، والشرب، واللباس، والنكاح، ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات.
ولهذا قال بعضُ مَن غلط مِن المشائخ لما سَمِعَ قوله: {مِنْكُم مَنْ يُريدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ} قال: فأين من يريد الله؟! وقال آخر في قولِه تعالى: {إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ المُؤمِنينَ أنْفُسَهُم وَأَمْوَالُهُم بِأَنَّ لَهُم الجَنَّةَ} قال: إذا كانت النفوسُ والأموالُ بالجنَّة فأين النظر إليه؟! وكل هذا لظنِّهم أنَّ الجنَّة لا يدخلُ فيها النظر.
والتحقيق: أن الجنةَ هي الدارُ الجامعةُ لكلِّ نعيمٍ، وأعلى ما فيها: النظرُ إلى وجهِ اللهِ، وهو من النعيمِ الذي ينالونه في الجنةِ، كما أَخْبَرَتْ به النصوصُ، وكذلك أهل النار، فإنهم محجوبون عن ربِّهم يدخلون النارَ، مع أن قائل هذا القول إذا كان عارفًا بما يقول فإنما قصدُه أنك لو لم تخلقْ نارًا أو لو لم تخلقْ جنَّة لكان يجب أن تُعبد، ويجب التقرب إليك، والنظر إليك، ومقصودُه بالجنةِ هنا ما يتمتعُ فيه المخلوق)([8]).
وقال ابن القيم - رحمه الله -: (والتحقيقُ أن يُقال: الجنَّةُ ليست اسمًا لمجردِ الأشجار، والفواكه، والطعام، والشراب، والحور العين، والأنهار، والقصور، وأكثرُ الناسِ يغلطون في مسمى الجنَّة، فإنَّ الجنَّةَ اسمٌ لدارِ النعيمِ المطلقِ الكاملِ، ومِن أعظمِ نعيمِ الجنَّة: التمتعُ بالنظرِ إلى وجهِ اللهِ الكريمِ، وسماعِ كلامِه، وقرة العينِ بالقربِ منه، وبرضوانِه، فلا نسبة للذةِ ما فيها من المأكولِ والمشروبِ والملبوسِ والصورِ إلى هذه اللذةِ أبدًا، فأيسر يسير من رضوانه: أكبرُ من الجنان وما فيها من ذلك؛ كما قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَر} [التوبة: 72]، وأتى به مُنَكَّرًا في سياقِ الإثبات، أي: أي شيء كان من رضاه عن عبده: فهو أكبرُ من الجنةِ.
قليلٌ منكَ يُقْنِعُنِي |
ولكنْ قليلك لا يُقالُ له قليل |
وفي الحديث الصحيح حديث الرؤية: ((فواللهِ ما أعطاهم اللهُ شيئًا أَحَب إليهم من النظرِ إلى وجهِه))، وفي حديث آخر: ((أنه سبحانه إذا تَجَلَّى لهم ورأوا وَجْهَهَ عيانًا: نسوا ما هُمْ فيه من النعيمِ وذَهلوا عنه ولم يلتفوا إليه)).
ولاريب أن الأمرَ هكذا، وهو أجلُّ مما يخطرُ بالبالِ أو يدورُ في الخيالِ، ولا سيما عند فوزِ المحبين هناك بمعيةِ المحبةِ، فإن ((المرءَ مَع مَن أَحَبَّ))، ولا تخصيص في هذا الحكمِ، بل هو ثابتٌ شاهدًا وغائبًا، فأيُّ نعيمٍ، وأيُّ لذةٍ، وأيُّ قرةِ عينٍ، وأي فوزٍ، يداني نعيمَ تلك المعية ولذتها وقرة العين بها، وهل فوق نعيمِ قرةِ العينِ بمعيةِ المحبوبِ الذي لا شيءَ أجل منه، ولا أكمل، ولا أجمل قرة عين ألبتة؟!
وهذا واللهِ هو العِلم الذي شمَّرَ إليه المحبون، واللواء الذي أمَّه العارفون، وهو روح مسمَّى الجنَّة وحياتها، وبه طابت الجنة، وعليه قامت، فكيف يُقال: "لا يُعْبَدُ اللهُ طلبًا لجنَّته، ولا خوفًا من نارِه"؟!
وكذلك النار أعاذنا اللهُ منها، فإن لأربابِها من عذابِ الحجابِ عن اللهِ، وإهانتِه وغضبِه وسخطِه والبُعدِ عنه أعظم من التهابِ النارِ في أجسامِهم وأرواحِهم، بل التهابُ هذه النارِ في قلوبِهم هو الذي أوجبَ التهابها في أبدانِهم، ومنها سَرَتْ إليها.
فمطلوبُ الأنبياء والمرسلين والصدِّيقين والشهداء والصالحين هو الجنَّة، ومهربهم من النارِ، واللهُ المستعان وعليه التكلان، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ، وحسبُنَا اللهُ ونِعْمَ الوكيل)([9]).
5- مؤدى تلك المقولة الاستخفاف بخلق الجنة والنار، والله تعالى خلقهما، وأعدَّ كل واحدة منهما لمن يستحقها، وبالجنة رغَّب العابدين لعبادته، وبالنار خوَّف خلقه من معصيته والكفر به.
6- كان النبي صلى الله عليه وسلم يسألُ اللهَ الجنَّة، ويستعيذ به من النار، وكان يعلِّم ذلك لأصحابه رضي الله عنهم، وهكذا توارثه العلماء والعبَّاد، ولم يروا في ذلك نقضًا لمحبتهم لربهم تعالى، ولا نقصًا في منزلة عبادتهم؛ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}([10]).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ: ((مَا تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: أَتَشَهَّدُ، ثُمَّ أَسْأَلُ اللهَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِهِ مِنْ النَّارِ، أَمَا وَاللَّهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ، وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ - أي: ابن جبل - قَالَ: حَوْلَهَا نُدَنْدِن))([11]).
قال تقي الدِّين السبكي - رحمه الله -: (والعاملون على أصناف: صنف عبدوه لذاتِه، وكونه مستحِقًّا لذلك؛ فإنه مُسْتَحِقٌّ لذلك لو لم يخلقْ جنَّةً ولا نارًا، فهذا معنى قول من قال: "ما عبدناك خوفًا من نارِك، ولا طمعًا في جنَّتك"، أي: بل عبدناك لاستحقاقِك ذلك.
ومع هذا؛ فهذا القائل يسألُ اللهَ الجنَّةَ، ويستعيذُ به من النارِ، ويظنُّ بعضُ الجهلةِ خلافَ ذلك، وهو جهلٌ، فمَن لم يسألْ اللهَ الجنَّةَ والنجاةَ من النارِ فهو مخالفٌ للسنة؛ فإن مِن سنَّةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولما قال ذلك القائلُ للنبي صلى الله عليه وسلم: "إنه يسأل اللهَ الجنةَ، ويستعيذ به من النارِ"، وقال: "ما أُحسنُ دندنتَك، ولا دندنةَ معاذ"؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حولها ندندن))، فهذا سيدُ الأولين والآخرين يقولُ هذه المقالة، فمن اعتقدَ خلافَ ذلك: فهو جاهلٌ، ختَّال.
ومِن آدابِ أهلِ السنَّةِ أربعة أشياء لابد لهم منها: الاقتداءُ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والافتقارُ إلى اللهِ تعالى، والاستغاثةُ باللهِ، والصبرُ على ذلك إلى الممات، كذا قالَ سهلُ بن عبد الله التستري، وهو كلامٌ حقٌّ)([12]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (كلُّ ما أعدَّه اللهُ لأوليائِه: فهو مِن الجنَّةِ، والنظرُ إليه هو من الجنةِ، ولهذا كان أفضل الخلقِ يسألُ اللهَ الجنَّةَ، ويستعيذُ به من النَّارِ، ولما سألَ بعضَ أصحابِه عما يقولُ في صلاتِه، قالَ: "إني أسألُ اللهَ الجنَّةَ، وأعوذ باللهِ من النَّارِ، أما إني لا أُحسنُ دندنتَك، ولا دندنةَ معاذ"؛ فقال: ((حولها ندندن)))([13]).
7- من أرادَ أن يعبدَ اللهَ تعالى بالمحبَّةِ وحدها دون الخوف والرجاء فدينُه في خطر، وهو مبتدع أشد الابتداع، وقد يصل به الحال أن يخرج من ملَّة الإسلام، وبعض كبار الزنادقة يقول: "إننا نعبدُ الله محبةً له، ولو كان مصيرنا الخلود في النار"!!
ويعتقد بعضهم أنه بالمحبة فقط ينال رضا الله ورضوانه، وهو يشابه بذلك عقيدة اليهود والنصارى؛ حيث قال تعالى عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18].
قال تقي الدين السبكي - رحمه الله -: (وأما هذا الشخصُ الذي جرَّدَ وصفَ المحبةِ، وعَبَدَ اللهَ بها وحدها؛ فقد ربا بجهلِه على هذا، واعتقدَ أن له منزلةً عندَ اللهِ رفَعَتْهُ عن حضيضِ العبوديةِ وضآلتِها، وحقارةِ نفسِه الخسيسةِ وذلتِها، إلى أوجِ المحبةِ، كأنه آمِنٌ على نفسه، وآخذٌ عهدًا من ربِّه أنَّه من المقربين، فضلًا عن أصحاب اليمين، كلا بل هو في أسفلِ السافلين.
فالواجبُ على العبدِ: سلوكُ الأدبِ مع اللهِ، وتضاؤله بين يديه، واحتقاره نفسه، واستصغاره إياها، والخوف من عذابِ اللهِ، وعدم الأمن من مكرِ اللهِ، ورجاء فضلِ اللهِ، واستعانته به، واستعانته على نفسِه، ويقول بعد اجتهاده في العبادة: "ما عبدناك حقَّ عبادتك"، ويعترفُ بالتقصيرِ، ويستغفرُ عقيب الصلوات إشارةً إلى ما حصلَ منه من التقصيرِ في العبادةِ، وفي الأسحارِ إشارةً إلى ما حصلَ منه من التقصيرِ، وقد قام طولَ الليل، فكيف من لم يَقُمْ؟!)([14]).
وقال القرطبي - رحمه الله -: ({وادعوه خوفًا وطمعًا}: أمر بأن يكونَ الإنسانُ في حالةِ ترقبٍ وتخوفٍ وتأميلٍ لله عز وجل، حتى يكون الرجاءُ والخوفُ للإنسانِ كالجناحين للطائر، يحملانه في طريقِ استقامتِه، وإن انْفَرَدَ أحدُهما هَلَكَ الإنسانُ، قال اللهُ تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحِجر: 49، 50]([15]).
([1]) طبقات الصوفية، أبو عبد الرحمن السلمي، ص(489)، والتعرف لمذهب أهل التصوف، أبو بكر الكلاباذي، ص(161، 184).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.