الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ إن الأمر الذي كان معروفًا بين المسلمين في القرون الفاضلة، أنهم كانوا يعبدون الله تعالى بأنواع العبادات المشروعة، فرضها ونفلها، من الصلاة والصيام والقراءة والذكر وغير ذلك، وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات، كما أمر اللهُ بذلك، يدعون لأحيائهم وأمواتهم في صلاتهم على الجنائز، وعند زيارة قبورهم وغير ذلك([1]).
وأما ما جرت العادة عند العوام في العصور المتأخرة من قراءة القرآن على الميت وإهداء ثوابها إليه فلم يؤثر ذلك عن السلف الصالح - رحمهم الله -، ولا عن أحد من الأئمة المتبوعين، وقد أنكر الإمامُ الشافعي - رحمه الله - هذا العمل، وذهب إلى عدم وصول ثواب القراءة إلى الميت([2])، وتبعه عليه جماهيرُ أصحابه، وإليك بعض أقوالهم في ذلك:
قال الإمام ابن كثير- رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، قال: (أي كما لا يُحمل عليه وزر غيرِه، كذلك لا يحصلُ من الأجرِ إلا ما كسبَ هو لنفسِه، ومن هذه الآيةِ الكريمةِ استنبطَ الشافعيُّ- رحمه الله - ومن اتبعه أن القراءةَ لا يصلُ إهداءُ ثوابِها إلى الموتى([3])، لأنه ليس من عملِهم ولا كسبِهم.
ولهذا لم يندبٍ إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمتَه، ولا حثَّهم عليه، ولا أرشدَهم إليه بنصِّ ولا إماءةٍ، ولم يُنقل ذلك عن أحدِ الصحابةِ رضي الله عنهم، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، وبابُ القربات يقتصر فيه على النصوصِ، ولا يتصرف فيه بأنواعِ الأقيسةِ والآراءِ، فأما الدعاءُ والصدقةُ فذاك مُجمعٌ على وصولِها([4])، ومنصوصٌ من الشارع عليهما).
وقال الإمام أبو إسحاق الشيرازي - رحمه الله -: (فصل: ولا يلحق الميتَ مما يُفعلُ عنه بعد موتِه بغيرِ إذنِه إلا دينٌ يُقضى عنه، أو صدقةٌ يُتصدق بها عنه،أو دعاءٌ يُدعى له)، ثم جاء بالأدلة على ذلك، ثم قال: (وأما ما سوى ذلك من القُرَبِ كقراءةِ القرآنِ وغيرِها فلا يلحقُ الميتَ ثوابُها)([5]).
وسُئل العز بن عبد السلام - رحمه الله -: هل يصل الثواب بالقراءة إذا أهداه القارئ إلى الميت أم لا؟ فأجاب - رحمه الله - بقوله: (وأما ثوابُ القراءةِ فمقصورٌ على القارئِ، لا يصلُ إلى غيرِه؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وقوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]، فجعلَ أجرَ الاكتسابِ لفاعليها، فمن جعلها لغيرِه فقد خالفَ ظاهر الآيةِ بغيرِ دليلٍ شرعيٍّ، ومن جعلَ ثوابَ القراءة للميت فقد خالفَ قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، فإن القراءة ليست من سعي الميت.
وكذلك جعلَ اللهُ العملَ الصالحَ لعاملِه بقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46]، فمن جعلَ شيئًا من الأعمالِ لغيرِ العاملين فقد خالفَ الخبرَ الصادق، والعجب أنَّ من الناسِ منْ يُثْبِتُ ذلك بالمنامات، وليست المنامات من الحججِ الشريعةِ التي يثبتُ بها الأحكام، ولعل المرأي في ذلك من تخبطِ الشيطانِ وتزيينه، ولا يجوزُ إهداء شيءٍ من القرآنِ، ولا من العبادات، إذ ليس لنا أن نتصرفَ في ثوابِ الأعمالِ بالهبات، كما نتصرف في الأموالِ بالتبرعات)([6]).
وأخيرًا؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية - بعد أن ذكر خلاف العلماء في حكم إهداء الثواب في العبادات البدنية والعبادات المالية - قال: (ومع هذا فلمْ يكنْ من عادات السلفِ إذا صلُّوا تطوعًا أو صاموا تطوعًا، أو حجُّوا تطوعًا أو قرءوا القرآن، أن يهدوا ثوابَ ذلك إلى موتى المسلمين، بل ولا لخصوصِهم، بل كان من عادتهم كما تقدم - أي: الدعاء للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات -، فلا ينبغي للناسِ أن يعدلوا عن طريقِ السلفِ، فإنه أكملُ وأفضلُ)([7]).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.