أقام الصوفية عبادتهم على مبدأ محبة الله لذاته، وعبادته لذاته لا لأمر آخر، ولهذا ميزنا محبتهم بأنها محبة صوفية، ولم نسمها محبة شرعية، ولا إسلامية، فما سبب ذلك، وما هي تفاصيل مواقف شيوخ الصوفية من المحبة الصوفية؟ وما حقيقة محبتهم في ميزان الشرع والعقل؟
للصوفية روايات كثيرة عن شيوخهم تتعلق بالمحبة الصوفية أصلوا بها للحب الإلهي الصوفي، ودافعوا بها عن موقفهم، وردوا بها على مخالفيهم أذكر منها الروايات الآتية، ثم أعلق عليها ردا ومناقشة.
فمن أقوال رابعة العدوية أنه قيل لها يوم: "لكل عبد شريطة ولكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فقالت: ما عبدت الله خوفا من الله، فأكون كالأمة السوء إن خافت عملت، ولا حبا للجنة فأكون كأمة السوء إن أعطيت عملت، ولكني عبدته حبا له وشوقا إليه"[1].
وقيل لها:" كيف حبك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: إني لأحبه، ولكن شغلني حب الخالق عن حب المخلوق"[2].
ورأت يوما أحد العباد يقبل صبيا صغيرا، فقالت له: أتحبه؟ قال: نعم، فقالت: ما كنت أحسب أن في قلبك موضع محبة لغير الله عز وجل، فخر الرجل مغشيا عليه، فلما أفاق قال: بل رحمة الله جعلها تعالى في قلوب عباده[3].
وروي أن أحد رآها تتمايل، فسألها عن سبب تمايلها فقالت:" سكرت من حب ربي اللهيلة فأصبحت منه وأنا مخمورة"[4]، ومن أقوالها في الحب الصوفي
أحب حبين حب الهوى وحبا لأن أهل لذاكا
فيما الذى هو حب الهوى فشغلى بذكرك عمن سواكا
وأما الذى أنت أهل له فكشف لى الحجب حتى أراكا[5]
وقالت أيضا
كلُّهم يعبدوك من خوف نار ويرون النجاة حظاً جزيلا
أو بأن يسكنوا الجنان فيحظوا بقصور ويشربوا سلسبيلا
ليس لي بالجنان والنار حظ أنا لا أبتغي بحبي بديلا[6]
ومن أقوال إبراهيم ابن أدهم:"اللهم إنك تعلم أن الجنة لا تزن عندي جناح بعوضة، إذا أنت آنستني بذكرك، ورزقتني حبك، وسهلت علي طاعتك، فأعط الجنة لمن شئت"[7].
وقال أيضا:" اللهم إنك تعلم أن الجنة لا تزن عندي جناح بعوضة فما دونها، إذا أنت وهبت لي حبك وأنتسني بمذاكرتك، وفرغتني للتفكر في عظمتك"[8].
وروي أن أحد قال لعروف الكرخي:" أخبرني عنك أي شيء أحاجك إلى العبادة والانقطاع عن الخلق؟ فسكت، فقلت: ذكرت الموت؟ فقال: وأي شيء الموت؟ قلت: ذكر القبر ولرزخ فقال: وأي شيء القبر؟ فقلت: خوف النار ورجاء الجنة فقال: وأي شيء هذا؟ إن واحدا بيده هذا كله إن أحببته أنساك جميع ذلك، وإن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا"[9].
ومن أقوال أبي يزيد البسطامي في الحب الصوفي، ما رواه أبو عبد الرحمن السلمي:" قال أبو يزيد:" إن الله تعالى أمر العباد ونهاهم، فأطاعوه، فخلع عليهم خلعه، فاشتغلوا بالخلع عنه، وإني لا اريد من الله إلا الله"[10].
وقال:" إن أعطاك مناجاة موسى، وروحانية عيسى، وخلة إبراهيم-صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-فاطلب ما وراء ذلك، فإن عنده فوق ذلك أضعافا مضاعفة، فإن سكنت إلى ذلك حجبك به"[11].
وقال:" الجنة هي الحجاب الأكبر، لأن أهل الجنة سكنوا إلى الجنة، وكل من سكن إلى الجنة سكن إلى سواه، فهو محجوب"[12].
وقال أيضا:" أحببت الله حتى أبغضت نفسي، وأبغضت الدنيا حتى أحببت الله، وتركت الدنيا حتى وصلت إلى الله، وأخترت الخالق عن المخوقين حتى آنست به"[13]، وقال أيضا:" الجنة لا خطر لها عند أهل المحبة، وأهل المحبة محجوبون بمحبتهم"[14].
ونقل أبو حامد الغزالي عن الصوفي أبي سليمان الداراني أنه قال:" إن لله عبادا ليس يشغلهم عن الله خوف النار ولا رجاء الجنة" ثم علق عليه بقوله:" فكيف تشغلهم الدنيا عن الله؟"[15].
وقال الصوفي يحيى بن معاذ (ت 258 هــ) :" فمن أحب الله لا يرجو من الله سوى الله، كانت عبادته أفضل بكثير ممن يعبد الله طمعا في ثوابه أو خوف عقابه، والكل خير"[16].
وعن الصوفي أبي الحسن بن الموفق (ت265هـــ) أنه كان يقول:" اللهم إن كنت تعلم أني أعبدك خوفا من نارك، فعذبني بها، وإن كنت تعلم أني أعبدك با مني لك وشوقا إلى وجهك الكريم فأبحنيه مرة واصنع بي ما شئت"[17].
وروي أن الصوفي ذان النون المصري روى خبرا عن الحب الصوفي وأثنى على صاحبه، ووافقه عليه مفاده أنه قال:" وصف لي رجل باليمن قد برز على المخالفين وسما على المجتهدين وذكر لي باللب والحكة ووصف لي بالتواضع والرحمة، فخرتجت حاجا فلما قتضي نسكي مضيت إليه لأسمع من كلامه وأنتفع بموعظته أنا وناس كاننوا يطلبون منه مثل ما أطلب، وكان عنا شاب عليه سيما الصالحين ومنظر الخائفين وكان مصفر الوجه من غير مرض عمش العينين من غير عمش ناحل الجسم من غير سقم، يحب الخلوة ويأنس بالوحدة، تراه أبدا كأنه قريب عهد بالمصيبة أو قد فدحته نائبة، فخرج إلينا فجلسنا إليه فبدأ الشاب بالسلام عليه وصافحه فأبدى له الشيخ البشر والترحيب فسلمنا عليه جيعا، ثم بدأ الشاب بالكلام فقال:" ثم قال يرحمك الله: ما علامة المحب لله؟ قال له: حبيبي إن درجة الحب رفيعة، قال: فأنا أحب أن تصفها ي قال: إن المحبين لله شق لهم من قلوبهم فأبصروا بنور القلوب إلى الله عز جلال الله فصارت أبدانهم دنياوية وأرواحهم عجيبة وقولهم سماوية تسرح بين صفوف الملائكة كالعيان وتشاهد ملك الأمور باليقين فعبدوه بملغ استطاعتهم بحبهم له لا طمعا في جنة ولا خوفا من نار، فشهق الفتى شهقة وصاح صيحة كانت فيها نفسه، قال: فانكب الشيخ عليه يلثمه وهو يقول: هذا مصرع الخائفين هذه درجة المجتهدين هذا أمان المتقين"[18].
وقال الصوفي أبو حازم المدني:" إني لأستحي من ربي أن أعبده خوفا من العقاب، فأكون مثل العبد السوء إن لم يعط أجر عمله لم يعمل، ولكن أعبده محبة له"[19].
فعلق عليه أبو طالب المكي بقوله:" وقد روينا معنى هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم:" لا يكون أحدكم كالعبد السوء، إن خاف عمل، ولا كالأجير السوء إن لم يعط أجرا لم يعمل"[20].
وقال المؤرخ الصوفي السراج الطوسي عن محبة الصديقين والعارفين بأنها:" تولدت من نظرهم ومعرفتهم بقديم حب الله بلا علة، فلذلك أحبوه بلا علة"[21].
وقال أبو حامد الغزالي:" قال العارفون ليس خوفنا من نار جهنم ولا رجاءنا للحور العين وإنما مطالبنا اللقاء ومهربنا من الحجاب فقط، وقالوا: من يعبد الله بعوض فهو لئيم، كأن يعبده لطلب جنته أو لخوف ناره، بل العارف يعبده لذاته، فلا يطلب إلا ذاته فقط، فأما الحور العين والفواكه فقد لا يشتهيها وأما النار فقد لا يتقيها إذ نار الفراق إذا استولت ربما غلبت النار المحرقة للأجسام، فإن نار الفراق نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ونار جهنم لا شغل لها إلا مع الأجسام، وألم الأجسام يستحقر مع ألم الفؤاد"[22].
وقال الصوفي ابن عجيبة المغربي:" فمن عبد الله تعالى لشيء يرجوه منه في الدنيا أو في الآخرة أو ليدفع عنه بطاعته ورود العقوبة في الدنيا أو في الآخرة فما قام بحق أوصاف الربوبية التي هي العظمة والكبرياء والعزة والغنى"[23].
وأخيرا: روى أبو نعيم الأصبهاني حديثا نبويا عن الحب الصوفي بقوله:" حدثنا أبي ثنا أبو عبد الله محمد بن أمد بن يزيد ثنا عبد الله بن عبد الوهاب، ثنا محمد بن عبد الله، ثنا إبراهيم بن الأشعث، ثنا محمد بن الفضل بن عطة، عن عبد الواحد بن زيد، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يقول الله تعالى إذا كان الغالب على عبد الاشتغال بي جعلت نعيمه ولذته في ذكري، فإذا علت نعيمه ولذته في ذكري عشقني وعشقته، فإذا عشقني وعشقته رفعت الحجاب فيما بيني وبينه وصرت معا لما بين عينيه، لا يسهو إذا سهى الناس، أولئك كلامهم كلام الأنبياء، أولئك الأبطال حقا، أولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض عقوبة وعذابا ذكرتهم فصرفت ذلك عنهم"
كذا رواه عبد الواحد عن الحسن مرسلا وهذا الحديث خارج من جملة الأحاديث المراسيل المقبولة عن الحسن لمكان محمد بن الفضل وعبد الواحد وما يرجعان إليه من الضعف[24].
وروى بإسناده:" حدثنا عثمان بن محمد، ثنا أحمد بن محمد بن عيسى، قال سمعت يوسف بن الحسين يقول: حدثني محمد بن يحيى الخسرخسي الاسك قال: سمعت أبا يزيد البسطامي يقول: الحب لله على أربعة فنون، ففن منه وهو منته، وفن منك، وهو ودك، وفن له وهو ذكرك له، وفن بينكما وهو العشق، قال يوسف: فذكرت ذلك لذي النون فقال: هذا الكمال الزاهد يقول كيف أصنع؟ والعارف يقول: كيف يصنع بي؟"[25].
وعن أبي يزيد السطامي أنه قال:" وده ودي، وودي وده، عشقه عشي، وعشقي عشقه، حبه حبي، وحبي حبه"[26].
[1] أبو طالب المكي، قولت القلوب (1/456).
[2] أبو عبد الرحمن السلمي، طبقات الصوفية، ويليه ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات، ص(388).
[3] المرجع السابق.
[4] المرجع السابق.
[5] الغزالي: إحياء علوم الدين، (4/310).
[6] عبد المجيد الشنوبي، شرح الحكم العاطئية، ص(33).
[7] حلية الأولياء، (8/35).
[8] المرجع السابق.
[9] أبو طالب المكي، قوت القلوب،(1/456).
[10] أبو عبد الرحمن السلمي: طبقات الصوفية، ويليه ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات، ص(72).
[11] أبو طالب المكي، قوت القلوب (1/456).
[12] أبو يزيد البسطامي: المجموعة الصوفية الكاملة، ويليها كتاب تأويل الشطح، (47).
[13] المرجع السابق، (98).
[14] المرجع السابق، (99).
[15] الغزالي، إيحاء علوم الدين، (4/310).
[16] جواهر التصوف، (45).
[17] الماليني: الأربعون في شيوخ الصوفية، ص(80)، وابن الملقن، طبقات الأولياء(ص58).
[18] حلية الأولياء (9/366).
[19] قوت القلوب: (1/456).
[20] المرجع السابق (1/456).
[21] اللمع،(87).
[22] إحياء علوم الدين، (4/25).
[23] إيقاظ الهمم في شرح الحكم (108).
[24] أحلية الأولياء، (6/163).
[25] المرجع السابق(10/242).
[26] المجموعة الصوفية الكاملة، (99).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.