الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصحبِه وَمَنْ وَالَاه وبعد ...
القولُ السادسُ: وَهوَ لِيَزيد بنِ هارون الواسطي: (لَا تَصحُّ المعرفةُ وَفِي العبدِ استغناءٌ باللهِ وَافتقارٌ إليه)، وَقدْ شرحَه القشيريُّ بقولِه: (أرادَ الواسطيُّ بهذَا أنَّ الافتقارَ وَالاستغناءَ مِنْ أماراتِ صحوِ العبدِ وَبقاءِ رسومِه على مَا كانَتْ عليه، لأنَّهما مِنْ صفاتِه، وَالعارِفُ مَحْوٌ فِي معرفةٍ، فَكَيفَ يَصِحٌّ له ذلك؟!)([1]).
أقولُ: إنَّ القشيريَّ شرحَ قولَ الواسطي بشيءٍ مِنَ الوضوحِ، وَمعنى كلامِه أنَّ الافتقارَ وَالاستغناءَ باللهِ يعني "الاثنينية"؛ أي: أنَّ الصوفيَّ مَا زالَ يُفَرِّقُ بينَه وَبينَ اللهِ، وَبينَ اللهِ وَمخلوقاتِه، فهوَ مَا يزالُ صحوًا، لَمْ تتلاشْ وَلا انمحتْ صفاتُه وَذاتُه البشريةُ، وَعندما ينمحي وَيزولُ منْه ذلكَ يصلُ إلى المعرفةِ التي تجعلُه يعرفُ وَيكتشفُ أنَّه هوَ اللهُ حسب زعمِه، فلا يمكنُ - حسبَ الواسطي وَالقشيري - أنْ يصلَ الصوفيُّ إلى مرتبةِ استشعارِ وحدةِ الوجودِ مَا دامَ يُفَرِّقُ بينَ ذاتِه وَخالقِه.
وَمِنْ جهةٍ أخرى؛ فإنَّ مَا قالَه الواسطيُّ وَالقشيريُّ هوَ شاهدٌ بنفسِه على أنَّهما على طريقةِ العبادةِ الصوفيةِ لا الشرعيةِ، وَأنَّهما قدْ خالفَا دينَ الإسلامِ مخالفةً صرحيةً، بلْ هدمَاه عندما حثَّا على عدمِ الاستغناءِ باللهِ وَالافتقارِ إليه، وَقرَّرَا عقيدةَ وحدةِ الوجودِ، التي هيَ هدمٌ للدينِ وَالعقلِ وَالعلمِ؛ قالَ تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، وَهذه الآيةُ وحدَها تهدمُ كلَّ ما قالَه الصوفيةُ عنْ وِحْدةِ الوجودِ.
القولُ السابعُ: هوَ أيضًا للواسطي، مفادُه: (إذَا ظَهَرَ الحقُّ على السرائر؛ لا يبقى فيها فضَلَةٌ لرجاءٍ وَلَا لخوفٍ)؛ وَسببُ ذلكَ عندَ القشيريِّ أنَّه إذا: (اصطلتْ شواهدُ الحقِّ تعالى الأسرارَ مَلَكَتْها، فلا يبقَى فيها مساغٌ لذكرِ حدثان، وَالخوفُ وَالرجاءُ مِنْ آثارِ بقاءِ الإحساسِ بأحكامِ البشريةِ)([2]).
وُأقولُ:كلامُ الرجلين يحملُ معنى واحدًا، هوَ القولُ بخرافةِ وَكُفْرِيةِ وِحْدةِ الوجودِ، فالأولُ زعمَ أنَّه إذا ظفرَ اللهُ على سرائر الصوفيِّ وَباطنِه بعدَ فنائِه؛ ارتفعَ إحساسُه بصفاتِ البشريةِ والخوفِ وَالرجاءِ، وَأصبحَ يستشعرُ الألوهيةَ.
وَالقشيريُّ كرَّرَ نفسَ المعنى بكلامٍ مُلْغِزٍ مقصودٍ، مفادُه أنَّ الصوفيَّ إذا تجلتْ عليه شواهدُ صفاتِ الألوهيةِ انمَحَتْ صفاتُه الحادثةُ؛ كالخوفِ وَالرجاءِ، وَهما مِنْ صفاتِ الإنسانِ قبلَ إحساسِه بالألوهيةِ حسبَ زعمِه، وَهذَا دليلٌ دامغٌ على فسادِ العبادةِ الصوفيةِ أصلًا وَفرعًا وَغايةُ؛ لأنَّ العبادةَ الشرعيةَ تُعَبِّدُ العبادَ لِرَبِّ العبادِ، لكنَّ العبادةَ الصوفيةَ تُخْرِجُهُم مِنْ عبادةِ رَبِّ العبادِ إلى الكفرِ بِه وَتحويلهم إلى أرابابٍ وَآلهةٍ!!
وَالقولُ الثامنُ: للحسين بنِ منصور الحلاج، قالَ عَنْ خرافةِ "وحدةِ الوجودِ":
أَنَا أَنْتَ بِلَا شَكٍّ سُبْـحَانَكَ سُبْحَانِي
تَوْحِيْدُكَ تَوْحِيْدِي وَعِصْيَانُكَ عِصْيَانِي([3])
وَقالَ أيضًا:
سُبْحَانَ مَنْ أَظْهَرَ نَاسُوتُه سِـرَّ سَنَاءِ لَاهُوتِه الثَّاقِبِ
ثُمَّ بَدَا فِي خَلْقِـهِ ظَاهِرًا فِي صُورَةِ الآكِلِ وَالشَّارِبِ([4])
أقولُ:
أولًا: يجبُ أنْ نعرفَ أنَّ الحلاجَ لَا يختلفُ عَنْ غيرِه مِنَ الصوفيةِ فِي قولِهم بوحدةِ الوجودِ -الفناء في اللهِ - فهوَ منهم وَهُم منه، لكنَّه خالفَ معظمَهم فِي أنَّه عبَّرَ عَنْ كُفْرِيةِ وِحدةِ الوجودِ بالعبارةِ لَا بالإشارةِ، فَأَعْلَنَ صراحةً قولَه بها، وَهُم لَمْ يفعلوا ذلكَ وَعبَّرُوا عنها بالتلغيزِ وَالتمويهِ وَالإشارةِ وَالتلبيسِ.
وَعندمَا أظهرَ الحلاجُ حقيقةَ الصوفيةِ فِي قولِهم بوحدةِ الوجودِ أنكرُوا عليه فِعْلَه، ليسَ إنكارًا لوحدةِ الوجودِ، وَإنِّما أنكرُوا عليه إظهارَه لحقيقةِ قولِهم وَكشفَه لَهُم، منهم أبو القاسم الجنيد، الذي قالَ: (لَقَدْ فَضَحَنَا الحلاجُ)([5]).
وَهُم يعظمِّونَ الحلاجَ، لكنَّ كثيرًا منهم لا يُظْهِرُ ذلكَ تقيةً وَتسترًا وَتلبيسًا على المسلمين، وَقَدْ يذكرون أقوالَه دونَ نسبتِها إليه، فمنْ ذلكَ مثلًا أنَّ الكلاباذي استدلَّ على كفريةِ وحدةِ الوجودِ عِنْدَ الصوفيةِ بحديثٍ قدسي، وَفسَّرَه بقولِه للحلاجِ دونَ ذكرٍ لاسمِه بقولِه: (فِي قولِه تَعالى: ((الصَّوْمُ لِي وَأنَا أَجْزِي بِه))، قَالَ بعضُ الكبارِ: أي أنَا الجزاءُ بِه)([6])، وَأَحَدُ الكِبَارِ هذا هوَ الحلاجُ([7]).
عِلْمًا بأنَّ تفسيرَ الحلاجِ لذلك الحديثِ ظاهرُ البطلانِ؛ لأنَّ الحديثَ أكَّدَ على التفريقِ بينَ الخالقِ وَالمخلوقِ، وَهذَا هدمٌ لعقيدةِ وِحدةِ الوجودِ، وَقولُ الحلاجِ شاهدٌ على ممارستِه للتأويلِ التحريفي ليتفقَ الحديثُ معْ قولِه بضلالةِ وحدةِ الوجودِ.
وَمِنْ جهةٍ أخرى؛ فإنَّ الحلاجَ لَمْ يَقُلْ بالحلولِ الذي يعني حلولَ ذاتٍ فِي ذاتٍ، وَلَا بالاتحادِ الذي يعني امتزاجَ ذاتٍ فِي ذاتٍ، وَإنَّما قالَ بوحدةِ الوجودِ التي تعنِي أنَّ الكونَ هوَ اللهُ، وَاللهُ هوَ الكونُ، فلَا موجودَ إلا الله.
وَثانيًا: إنَّ الحلاجَ بيَّنَ بوضوحٍ عقيدتَه فِي وحدةِ الوجودِ بقولِه:
سُبْحَانَ مَنْ أَظْهَرَ نَاسُوتُه سِـرَّ سَنَاءِ لَاهُوتِه الثَّاقِبِ
ثُمَّ بَدَا فِي خَلْقِـهِ ظَاهِرًا فِي صُورَةِ الآكِلِ وَالشَّارِبِ
فاللهُ حسبَ زعمِ الحلاجِ ظاهرٌ بذاتِه فِي كلِّ مكانٍ بأشكال متعددةٍ وَمتنوعةٍ، فكلُّ مَا يظهرُ في الطبيعةِ مِنْ كائناتٍ هيَ رسومٌ وَأشباحٌ وَظِلالٌ لَا وجودَ حقيقيَّ لهَا، وإنَّمَا هي تجلياتٌ للذاتِ الإلهيةِ.
وَنفس الأمرِ قرَّرَه بقولِه:
أَنَا أَنْتَ بِلَا شَكٍّ سُبْـحَانَكَ سُبْحَانِي
تَوْحِيْدُكَ تَوْحِيْدِي وَعِصْيَانُكَ عِصْيَانِي([9])
فالرجلُ يقولُ بوحدةِ الوجودِ لا بالحلولِ وَلَا بالاتحادِ غيرِ الصوفي، فذكرَ عَنْ نفسِه أنَّه هوَ اللهُ، وَاللهُ هوَ الحلاجُ، وَكُلُّ مَا في الكونِ هوَ اللهُ كما في البيتِ الأخيرِ، لكنَّه عبَّر عنْ وحدةِ الوجودِ عنْ طريقِ التعبيرِ بالجزءِ عنْ الكلِّ، وَهوَ نفسُه التعبيرُ بالكلِّ عنْ الجزءِ؛ لأنَّ الكلَّ يُعَبِّرُ عنْ وحدةِ الوجودِ، وَالجزءَ يعبِّرُ عنها أيضًا، بحكمِ أنِّ مظاهرَها في الواقعِ هي أجزاء ٌلا مجموع واحد.
قالَ تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف: 15]، فَهذه الآيةُ الكريمةُ تتضمنُ الإشارةَ إلى منْ يقولُ بوحدةِ الوجودِ الكليةِ وَالجزئيةِ، وقدْ كَفَّرَ اللهُ تعالى منْ يقولُ بها.
وَالقولُ التاسعُ: هوَ أيضًا للحسين الحلاج، رُوي أنَّ أحدًا قالَ له: (كيفَ الطريقُ إلى اللهِ تعالى؟ قالَ: الطريقُ بينَ اثنينِ وَليسَ معَ اللهِ أحدٌ، فقلتُ: بَيِّنْ، قالَ: مَنْ لَمْ يَقفْ على إشارتِنا لَمْ تُرْشِدْهُ عبارتُنا، ثُمَّ قَالَ:
أَأَنتَ أَم أَنا هَذا في إِلَهَينِ حاشاكَ حاشاكَ مِن إِثباتِ اِثنَينِ([10])
فالرجلُ نفى "الإثنينية"، بمعنى التفريق بينَ الخالقِ وَالمخلوقِ، وَأثبتَ وحدةَ الوجودِ التي يؤمنُ بها الصوفيةُ وَيُعَبِّرُون عنها غالبًا بإشاراتِهم لا بعباراتِهم، فالحلاجُ نصَّ صراحةً بأنه لا موجودَ إلا الله بقولِه: (لَيسَ مَعَ اللهِ أحدٌ)، و(حاشاكَ حاشاكَ مِن إِثباتِ اِثنَينِ)([11]).
وَالقولُ العاشر: لأبي العباس بن عطاء البغدادي، مفادُه: (قيلَ لابنِ عطاء: ما يفعلُ الذكرُ بالسرائر؟ فقالَ: ذِكْرُ اللهِ تعالى إذا وَرَدَ على السرائرِ بإشراقِه أزالَ البشريةَ فِي الحقيقةِ برعوناتِها)([12]).
وَقولُه هذا يتضمنُ القولَ بوحدةِ الوجودِ؛ لأنَّ معنى كلامِه أنَّ الذكرَ الصوفيَّ يوصلُ صاحبَه إلى الفناءِ فِي اللهِ، فيزيلَ بشريتَه وَيفنيها لتحلَّ الألوهيةُ محلَّها حسبَ زعمِهم.
فالذكرُ الصوفيُّ طريقٌ موصلٌ إلى كفريةِ وحدةِ الوجودِ، مما يعني أنَّه ذكرٌ مخالفٌ للذكرِ فِي الإسلامِ مخالفةً صريحةً، ولهذَا كانتْ نتيجتَه القولُ بضلالةِ وحدةِ الوجودِ، لكنَّ الذكرَ الشرعيَّ هوَ عبادةٌ شرعيةٌ، وَغايتُه طاعةُ اللهِ تعالى وتنويرُ القلوبِ، فهوَ لا يمحي البشريةَ وَإنما ينوِّرُها وَيربُطُها بخالقِها في تعاملِها معَ الناسِ، فهوَ ليسَ وسيلةً إلى الضلالِ وَالكفرِ وَهدمِ دينِ الإسلامِ كمَا هوَ حالُ الذكرِ الصوفي؛ قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
وَالقولُ الحادي عشر: وهو لذي النون المصري، سُئِلَ عنْ نهايةِ العارفِ فقالَ: (إذا كانَ كمَا كانَ حيثُ كانَ قبلَ أنْ يكونَ)([13]).
وَقولُه هذا يتضمنُ القولَ بوحدةِ الوجودِ، وَمفادُه أنَّ الصوفيَّ بعدمَا يمارسُ عباداتِ الطريقِ الصوفيِّ وَيصلُ إلى نهايتِه وَيصبحُ عارفًا كاملًا، يكونُ قدْ بلغَ درجةَ الفناءِ فِي اللهِ، وَفيها يفنى ويزولُ وَينمحي تمامًا بصفاتِه وَذاتِه، كمَا كانَ قبلَ أنْ يوجدَ.
وَبمعنى آخرَ فقبلَ وجودِه لمْ يكنْ موجودًا، وَعندما وُجِدَ مارسَ الطريقَ الصوفيَّ حتَّى فنيَ فِي اللهِ وَزالتْ ذاتُه، فأصبحَ غيرَ موجودٍ كما لمْ يكنْ موجودًا منْ قبل؛ لأنَّ ذاتَه فنيتْ فِي اللهِ، وَأصبحَ هوَ اللهُ، وَعادت ذاتُه إلى أصلِها الأولِ حسبَ زعمِ الصوفيةِ، لأنَّهم يزعمون أنَّ ما نراه منْ كائناتٍ في الطبيعةِ ليسَ لها وجودٌ حقيقيٌ، وَمَا هيَ إلا صورُ أشباحٍ للذاتِ الإلهيةِ، كقولِ الحلاجِ السابقِ ذكرِه.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.