الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصَحبِه وَمَنْ وَالَاه وبعد ...صرَّحَ الصوفيةُ أنَّ التوحيدَ الصوفي هوَ مِنْ غاياتِ التصوفِ وأسرارِه، ولهذا اهتموا بِه كثيرًا، وعبَّرُوا عنه غالبًا بالإشارةِ دونَ العبارةِ، كمَا فعلوا مع قولِهم بالفناءِ في اللهِ الذي وَصَّلَهم إلى الاعتقادِ بكفريةِ وحدةِ الوجودِ، فما تفصيلُ ذلكَ؟ وما هوَ حقيقةُ ذلك السرِّ؟ ولماذا تواصوا بإخفائِه؟ ولماذا قالوا به واعتقدوه؟
ونكمل ما بدأناه في أقوال الصوفية في التوحيد:
القولُ العشرون:
عندما ذكرَ أبو طالب المكي أنَّ رجلًا سألَ أبا يزيد البسطامي عنْ الطريقِ ليصبحَ مثلَه فِي حالِه وعلمِه؛ كانَ مما قالَ البسطامي للرجلِ: (وَادخلْ الأسواقَ كُلَّها عندَ الشهودِ وعندَ منْ يعرفُك وأنتَ على ذلكَ، فقالَ الرجلُ: سبحان الله تقولُ لي مثلَ هذا؟! فقالَ أبو يزيد: قولُكَ "سبحان الله" شركٌ، قالَ: كيف؟! قالَ: لأنَّكَ عَظَّمْتَ نفسَك فَسَبَّحْتَهَا ...)، فعلقَ أبو طالب المكي على كلامِه بقولِه: (فهذا لَمَّا قَالَ: "سبحان الله" كانَ مشركًا عندَه؛ لأنَّه سَبَّحَهُ برسمِ النفسِ، وقدْ كانَ أبو يزيد يقولُ: سبحاني مَا أعظم شأنِي، وهوَ مُوحِّدٌ لأنَّه وَحَّدَ بأوليةٍ بَدَتْ)([1]).
وأقولُ: إنَّ قولَ الرجلين يتضمنُ القولَ بوحدةِ الوجودِ؛ ومعنى كلامِ أبي طالب المكي أنَّ الذي تكلمَ برسمِ النفسِ - أي أثبتَ نفسَه - قَدْ أشركَ معَ اللهِ كائنًا آخر، وقالَ بالاثنينية، وهذا مخالفٌ للعبادةِ الصوفيةِ التي تقولُ: لا موجودَ إلا الله، حَسْبَ زعمِ الصوفيةِ.
لكنَّ أبا يزيد هوَ الموحدُ لأنَّه لم يتكلمْ برسمِ نفسِه، فقدْ محاها وتكلمَ بالأزليةِ التي بدتْ له، لا بالحدوثِ الذي منْ مظاهرَ النفوسِ، وبمعنى آخر إنَّ الرجلَ أرادَ أنْ يقولَ: إنَّ البسطامي تكلمَ بتوحيدِ وحدةِ الوجودِ، ولم يتكلمْ بالتوحيدِ الإسلامي الذي يقومُ على التفريقِ بينَ الخالِقِ والمخلوقِ، الذي هو شركٌ عندَ البسطامي وأصحابِه.
القولُ الواحد والعشرون:
عَرَّفَ الصوفي عبدُ اللهِ الأنصاري الهروي التوحيدَ عندَ الصوفيةِ، وَقَسَّمَهُ إلى ثلاثةِ أنواع، فقالَ: (والتوحيدُ على ثلاثةِ وجوهٍ:
الوجهُ الأول: توحيدُ العامةِ، الذي يصحُّ بالشواهد.
والوجهُ الثاني: توحيدُ الخاصةِ، وهوَ الذي يثبتُ بالحقائق.
والوجهُ الثالث: توحيدٌ قائمٌ بالقدمِ، وهوَ توحيدُ خاصةِ الخاصةِ.
فأمَّا التوحيدُ الأولُ فهوَ شهادةُ لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له الأحد الصمد الذي: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 3-4].
هذا هوَ التوحيدُ الجلي، الذي نفى الشركَ الأعظمَ، وعليه نُصِبَتْ القبلةُ، وبه وَجَبَتْ الذمةُ، وبه حُقِنَتْ الدماءُ وَالأموالُ، وانفَصَلَتْ دارُ الإسلامِ مِنْ دارِ الكفرِ، وصحَّتْ به الملةُ للعامةِ، وإنْ لم يقوموا بحقِّ الاستدلالِ بعدَ أنْ سَلِمُوا مِنَ الشبهةِ وَالحيرةِ والريبةِ بصدقِ شهادةٍ صَحَّحَهَا قبولُ القلبِ، هذا توحيدُ العامةِ الذي يصحُّ بالشواهدَ، والشواهدُ هيَ الرسالةُ، والصنائعُ تجب بالسمعِ، وتوجدُ بتبصيرِ الحقِّ، وتنمو على مشاهدةِ الشواهد.
وأمَّا التوحيدُ الثاني الذي يثبتُ بالحقائق، فهو توحيدُ الخاصةِ، وهوَ إسقاطُ الأسبابِ الظاهرةِ، والصعودُ عنْ منازعاتِ العقولِ، وعنْ التعلقِ بالشواهد، وهوَ أنْ لا يشهد في التوحيدِ دليلًا، ولا في التوكلِ سببًا، ولَا في النجاةِ وسيلةً، فيكونُ مشاهدًا سَبْقَ الحقِّ بحُكمِهِ وعلمِه، ووَضْعَه الأشياءَ مواضعَها، وتعليقَه إياها بأحايينِها، وإخفاءَه إياها فِي رسومِها، ويحققُ معرفةَ العللِ، ويسلكُ سبيلَ إسقاطِ الحدثِ، هذا توحيدُ الخاصةِ الذي يصحُّ بعلمِ الفناءِ، ويصفو في علمِ الجمعِ، ويجذبُ إلى توحيدِ أربابِ الجمعِ)([2]).
(وأمَّا التوحيدُ الثالثُ، فهوَ توحيدٌ اختصَّهُ الحقُّ لنفسِه، واستحقَّه بقدرِه، وألاحَ منه لائحًا إلى أسرارِ طائفةٍ مِنْ صفوتِه، وأخرسَهُمْ عنْ نعتِه، وأَعْجَزَهُم عَنْ بَثِّهِ، والذي يُشارُ بِهِ إليه على ألسنِ المشيرين أنَّهُ إسقاطُ الحدثِ وإثباتُ القِدَمِ على أنَّ هذا الرمزَ في ذلكِ التوحيدِ علةٌ لا يصحُّ ذلكَ التوحيدُ إلَّا بإسقاطِها.
هذا قطبُ الإشارةِ إليه على ألسنِ علماءِ هذا الطريقِ، وَإِنْ زخرفُوا له نعوتًا، وفصلُوه فصولًا، فإنَّ ذلكَ التوحيدَ تزيدُه العبارةُ خفاءً، والصفةُ نفورًا، والبَسْطُ صعوبةً.
وإلى هذا التوحيدِ شَخَصَ أهلُ الرياضةِ وأربابُ الأحوالِ، وله قَصَدَ أهلُ التعظيمِ، وإياه عني المتكلمون في عين الجمعِ.
وعليه تصطلمُ الإشاراتُ، ثُمَّ لم ينطقْ عنه لسانٌ، ولم تُشِرْ إليه عبارةٌ، فإنَّ التوحيدَ وراء ما يشيرُ إليه مُكَوِّنٌ، أو يتعاطاه حينٌ أوْ يُقِلُّهُ سببٌ.
وَقَدْ أجبتُ في سالفِ الزمانِ سائلًا سألني عنْ توحيدِ الصوفيةِ بهذه القوافي الثلاث:
مَا وَحَّدَ الواحدَ مِنْ واحد إذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدٌ
توحيدُ مَنْ ينطقُ عَنْ نَعْتِهِ عــاريةٌ أَبْطَلَهَا الواحدُ
تَوْحِــيدُه إياه توحيدُه وَنَعْتُ مَنْ ينعتُه لاحدٌ)([3])
وأقولُ: بدأَ الرجلُ بالتوحيدِ الأول، وسمَّاه "توحيد العامة"، وهوَ التوحيدُ الشرعي، فسمَّاهُ بذلكَ ولم يسمه بالتوحيدِ الشرعي، ولا بالتوحيدِ الإسلامي، ولا بتوحيدِ الأنبياء، وهوَ توحيدٌ يقومُ على الشواهد الشرعيةِ، بمعنى: نصوص الكتابِ وَالسنةِ.
وَوَصْفُهُ لهذا التوحيدِ بأنَّه توحيدُ العامةِ هوَ وصفٌ فيه ازدراءٌ به وتعالُمٌ عليه، وَحَطٌّ مِنْ شأنِه، مع أنَّه هوَ التوحيدُ الصحيحُن ولا توحيد صحيح غيرُه.
وليسَ صحيحًا أنَّ التوحيدَ الذي ارتضاهُ اللهُ تعالى له ولنا، وجاءتْ بهِ الأنبياءُ وآمنوا به هم والذين معهم، وهوَ التوحيدُ الذي يُسْعِدُ الإنسانَ في الدنيا والآخرةِ، فلا يصحُّ ولا يُعْقَلُ شرعًا ولا عقلًا ولا علمًا وصفُ التوحيدِ الشرعي بما وَصَفَهُ به الأنصاري وأمثالُه!!
ثُمَّ تكلمَ عَنْ التوحيدِ الثاني، ويقومُ على نفي أفعالِ البشرِ، لا أفعالِ اللهِ، بمعنى أنَّ الصوفيَّ يفنى في أفعالِ اللهِ وصفاتِه، فيصبحُ لا يرى إلا اللهَ، ومظاهرُ الكونِ مجردُ رسومٍ وأشباحٍ وتجلياتٍ للهِ، وهنا يكونُ الصوفيُّ قدْ فنى عنْ صفاتِه وذاتِه ومحيطِه، وهذا هوَ الفناءُ عنْ الخلقِ عندَ الصوفيةِ، وقدْ ذكره الهروي بقولِه: (إسقاطُ الحَدَثِ)، وهذه الحالةُ هي الخطوةُ الأولى ليصلَ الصوفيُّ بعدَها إلى وحدةِ الوجودِ، وفيها يصبحُ رَبًّا وإلهًا، حَسْبَ زَعْمِ الصوفيةِ.
ثُمَّ التوحيدُ الثالث، وهوَ غايةُ مطلبِ الصوفيةِ، وأعلى مرتبةٍ عندهم، ومعناه: (نفي وجودِ المخلوقِ)، (إسقاطُ الحَدَثِ وإثباتُ الأزلي)، وهوَ اللهُ، (إثباتُ القِدَمِ)، وهنا يفنى الصوفيُّ في اللهِ ويصبحُ هوَ الله، ولا موجودَ إلَّا هو، وهذا معنى (عين الجمعِ)؛ أي: وحدة الوجود.
علمنا بأنَّ ذلكَ التقسيمَ ليسَ مِنَ الإسلامِ، وإنما هوَ مِن اختلاقاتِ الصوفيةِ وأباطيلِهم، التي عبَّرُوا بها عنْ اعتقادِهم بوحدةِ الوجودِ مِنْ جهةٍ، وانحرافِهم عنْ التوحيدِ الشرعي وطعنِهم فيه مِنْ جهةٍ أخرى.
وهذا الرجلُ هوَ على طريقِ الصوفيةِ في قولِهم بوحدةِ الوجودِ بالإشاراتِ، والتظاهرِ بالإسلامِ بالعباراتِ، فَمِنْ أينَ له بأنَّ اللهَ تعالى أخفى التوحيدَ الصوفيَّ - الثالث -، وَخَصَّ به طائفةً مِنْ عبادِه؟!
إنَّهُ كَذِبٌ وافتراءٌ متعمدٌ على اللهِ ورسولِه والمؤمنين، فكلامُ اللهِ تعالى بينَ أيدينا، ولا يوجدُ فيه هذا التوحيدُ المزعومُ والباطلُ، وأفضلُ خَلْقِ اللهِ وهم الأنبياء لم يأتوا بهذا التوحيدِ ولا قالوا به، فَمِنْ أينَ للصوفيةِ بهذا التوحيدِ الخرافي وَالجنوني؟!
وأمَّا قولُه:
(مَا وَحَّدَ الواحدَ مِنْ واحدٍ إذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدٌ)
فيعني: لا واحد وَحَّدَ الواحدَ؛ أي لا مخلوقَ وَحَّدَ الخالِقَ، وَكُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ بذلكَ التوحيدِ فهوَ جاحدٌ للتوحيدِ وليسَ مُثْبِتًا له، وهذا التوحيدُ الذي نفاه الهروي هوَ التوحيدُ الشرعي، القائمُ على التفريقِ بينَ العابِدِ وَالمعبودِ، والخَالِقِ والمخلوقِ.
وهذا التوحيدُ أنكرَه الرجلُ لأنَّه لا يقومُ على وحدةِ الوجودِ، وإنما يقومُ على الوجودِ المتعددِ - الخالق والمخلوق -؛ لأنَّ مقولةَ "ما وَحَّدَ الواحدَ مِنْ واحدٍ" تتضمنُ إثباتَ الاثنينية والتعدد؛ فمعناها: لا واحدَ وَحَّدَ الواحَد، وهنا عندنا كائنان: المُوَحَّدُ، وَالمُوَحِّدُ، المعبودُ وَالعابدُ، الخالقُ والمخلوقُ.
ولهذا زعمَ الرجلُ أنَّ مَنْ أثبتَ هذا التوحيدَ فهوَ قدْ جَحَدَ التوحيدَ الصحيحَ الذي يكونُ فيه العابدُ هوَ المعبودَ، والعارفُ هو المعروفَ، والمخلوقُ هو الخالقَ، والمُوَحِّدُ هوَ المُوَحَّدَ، فالرجلُ ينكرُ التوحيدَ الإسلاميَّ ويقولُ بالتوحيدِ الصوفي: لا موجودَ إلا الله؛ ويعني: وحدة الوجود.
وأمَّا البيتان الأخيران، فقدْ شَرَحَهُما الشيخُ تقي الدين ابن تيمية بقولِه: (ولهذَا قَالَ:
توحيدُ مَنْ ينطقُ عَنْ نَعْتِهِ عــاريةٌ أَبْطَلَهَا الواحدُ
يعني: إذا تَكَلَّمَ العبدُ بالتوحيدِ وهو يرى أنَّه المتكلمُ؛ فإنما ينطقُ عَنْ نعتِ نفسِه فيستعيرُ مَا ليسَ له فيتكلمُ به، وهذه عاريةٌ أبطلَها الواحدُ، ولكنْ إذا فنى عنْ شهودِ نفسِه، وكانَ الحقُّ هو المتكلمَ على لسانِه، حيثُ فنى مَنْ لم يكنْ، وَبقي مَنْ لمْ يزلْ، فيكونُ الحقُّ هوَ الناطقَ بنعتِ نفسِه لا بنعتِ العبدِ، ويكونُ هوَ المُوحِّدَ وَهوَ الموحَّدَ.
ولهذا قالَ: توحيدُهُ إياه توحيدُه، أي: توحيدُ الحقِّ إياه أي نفسه، هوَ توحيدُه هوَ، لا توحيد المخلوقين له، فإنَّه لا يوحدُه عندهم مخلوقٌ، بمعنى أنه هو الناطقُ بالتوحيدِ على لسانِ خاصتِه، ليسَ الناطقُ هو المخلوقَ، كما يقولُ النصارى في المسيحِ إنَّ اللاهوت تكلمَ بلسانِ الناسوت.
وحقيقةُ الأمرِ أنَّ كُلَّ مَنْ تكلمَ بالتوحيدِ أوْ تصورَه وهو يَشْهَدُ غيرَ اللهِ فليسَ بموحدٍ عندَهم، وإذا غابَ وفنى عنْ نفسِه بالكليةِ فتمَّ له مقامُ توحيدِ الفناءِ الذي يجذبُه إلى توحيدِ أربابِ الجمعِ؛ صارَ الحقُّ هو الناطقَ المتكلمَ بالتوحيدِ، وكانَ هوَ الموحِّدَ وَالموحَّدَ، لا موحد غيره)([4]).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.