الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ يستدل المبتدعة عل أن من أقر بالربوبية فقد أقر بالألوهية، فعلى هذا فالآيات والأحاديث لا تشمل المسلمين من هذه الأمة المحمدية المرحومة الذين يعترفون بربوبية الله تعالى وأنه الخالق... إلخ([1]).
الرد:
حاصل شبهتهم ادعاء الفرق بينهم وبين المشركين الأوائل في اعتقاد الربوبية، وفحوى كلامهم أن الأوائل لا يعترفون بتوحيد الربوبية، بل صرح بذلك بعضهم كما سيأتي.
والصواب الذي لا مرية فيه أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووردت فيهم تلك النصوص- يعترفون بالربوبية-، وإليك الأدلة القاطعة:
1- قال تعالى: ((قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ)) [يونس:31].
2- وقال عز من قائل: ((قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ)) [المؤمنون:84-89].
3- وقال سبحانه: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)) إلى أن قال: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)) [العنكبوت:61-63].
4- وقال تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ...)) [الزمر:38].
5- وقال سبحانه: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)) [الزخرف:9].
6- وقال عز من قائل: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)) [الزخرف:87].
7- وقال تعالى: ((أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ...)) إلى آخر الآيات:[النمل:60-64].
8- قال تعالى: ((وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)) [يوسف:106]، فقد اتفقت أقوال مفسري السلف([2]) على أن من إيمانهم قولَهم: الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا، وعلى أن شركهم هو عبادتهم غيره ويوضح ذلك ما نقله ابن جرير عن قتادة أنه قال: (إنك لست تلقى أحداً منهم إلا أنبأك أن الله ربه، وهو الذي خلقه ورزقه وهو مشرك في عبادته)([3]).
9- ومن الأدلة القطعية على اعترافهم بتوحيد الربوبية، ما ذكره الله عنهم في وقت الشدائد والتطام الأمواج من إخلاص الدعاء لله رب العالمين، قال تعالى: ((وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)) [الإسراء:67]، وقال: ((وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...)) [لقمان:32]، وقال: ((وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ)) [النحل:53-54].
قال قتادة بن دعامة -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: (الخلق كلهم يقرون لله أنه ربهم ثم يشركون بعد ذلك)([4]).
10- الآيات التي تحدثت عن المشركين بأنهم يتخذون مع الله شركاء ووصفتهم بالشرك أو باتخاذهم وجَعلِهم مع الله آلهةً أخرى.
وذلك لأن الشرك مأخوذ من الشركة فيفيد إقرارهم بالربوبية إلا أنهم يجعلون معه شريكاً في العبادة، كشريكين في شيء مثلاً مع أنهم ما كانوا يساوون آلهتهم بالله في كل شيء بل في المحبة والخضوع لا في الخلق والإيجاد والنفع والضر([5])، فتلك الآيات تدل على أنهم لم يزعموا إلا الشراكة. والآيات التي وردت بالصفة المذكورة كثيرة جداً ويمكن الإشارة إلى بعضها، منها قوله تعالى: ((ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ)) [النحل:54]، ولو قيل يفهم من الآية أن فريقاً منهم لا يشرك بالرب بعد كشف الضر لاستقام، ومن المعلوم أنه يوجد فيهم حنفاء موحدون.
وقوله تعالى: ((وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ)) [النحل:86]، وقوله تعالى: ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ...)) إلى قوله: ((...وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ)) [الأنعام:94].
وقوله تعالى: ((قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا)) [الإسراء:42]، فإن قوله: ((كما يقولون)) صريح في أنهم إنما يدعون الشراكة لا الاستقلال كما هو واضح بين.
11- الآيات التي فيها اعتراف المشركين بالمشيئة المطلقة لله تعالى والتي فيها الاحتجاج بالقدر مثل قوله تعالى: ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ)) [الأنعام:148]، وقال تعالى: ((وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)) [النحل:35]، وقال تعالى: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ)) [يس:47]، ففي هذه الآيات اعتراف منهم بالمشيئة الكونية لله تعالى وإن كان احتجاجهم وزعمهم الجبر غيرَ صحيح.
12- الآيات التي وصف الله المشركين فيها بأنهم جعلوا الملائكة بنات لله تعالى، فهم يعبدون الملائكة على أنها بنات لله تعالى، وتقرب إليه، لا على أنها خالقة الكون، قال تعالى: ((وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ)) إلى قوله: ((وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ...)) [الزخرف: (15-20)]، وقال سبحانه: ((أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ)) [الصافات:150-153].
قال المعلمي -رحمه الله تعالى-: إن أول ما سرى إلى العرب نسبة الولد إليه تعالى كانوا يقولون: الملائكة بنات الله على معنى أنهم مقربون إليه ولم يقولوا: أبناء الله خشية إيهام أن يكونوا نظراءه فقالوا: بنات الله لأن الإناث عندهم ضعيفات([6]).
13- الآيات التي وردت بصيغة الاستفهام التقريري، نحو قوله تعالى: ((قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [إبراهيم:10].
وقوله: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)) [فاطر:3].
وقوله سبحانه: ((أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ)) [النحل:17]. وقوله جل شأنه: ((هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)) [لقمان:11].
وقوله تقدست أسماؤه: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ)) [فاطر:40].
فالأستفهام في هذه الآيات استفهام تقرير لهم لأنهم به مقرون([7]).
وقوله تعالى: ((قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ)) [الزمر:38]، قال مقاتل في تفسير هذه الآية: فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا أي لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها، وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عند الله لا لأنهم يكشفون الضر، ويجيبون دعاء المضطر، فهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قال تعالى: ((ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ))([8]) [النحل:53-54].
ومن تلك الآيات قوله تعالى: ((أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ)) [الرعد:16]. قال شيخ الإسلام: [وهذا استفهام إنكار بمعنى النفي، أي ما جعلو الله شركاء خلقوا كخلقه، فإنهم مقرون أن آلهتهم لم يخلقوا كخلقه وإنما كانوا يجعلونهم شفعاء ووسائط]([9]).
14- الآيات التي تدل([10]) على أن المشركين إنما أنكروا على الرسل الدعوة إلى إفراد الله بالعبادة لا أصل العبادة ولا الإقرار بالربوبية، منها قوله تعالى في قصة هود: ((أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ)) [الأعراف:70]، وقول قريش: ((أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا)) [ص:5]، ((وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ...)) [الزمر:45]، ((وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا)) [الإسراء:46].
15- الآيات الدالة على أنهم إنما يريدون من الأصنام الشفاعة والتقريب فقط، ومن تلك الآيات:((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) [الزمر:3]. ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) [يونس:18]، ((فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً)) [الأحقاف:28]، ((أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ)) [الزمر:43].
16- الآيات الدالة على أنهم يعبدون الله تعالى ويعبدون معه آلهة أخرى، فمن تلك الايات قول الله تعالى: ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)) [الزخرف: (26-27)]. وقوله تعالى: ((قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ)) [الشعراء: (75-77)]. وقوله تعالى: ((وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ)) [الكهف:16].
فالاستثناء في هذه الآيات يدل على أنهم يعبدون الله تعالى مع عبادتهم للآلهة، وهذا هو الذي أوجب الاستثناء وإلا فلو كانوا لا يعبدون الله فضلاً عن كونهم يعتقدون ربوبيتها فلا حاجة إلى هذا الاستثناء.
والخلاصة أن القرآن الكريم قد دل دلالة قطعية وصريحة على أن المشركين لم يكونوا يشركون في الربوبية وإنما كان شركهم في الألوهية ومع هذه الدلالة الواضحة أنكر ذلك بعضهم فلهذا نتبع هذا بالإشارة إلى أقوال العلماء الذين ذكروا ذلك، وقبل ذلك نذكر بعض الأدلة من غير القرآن فنقول وبالله التوفيق.
ومما يدل على أن المشركين يعترفون بتوحيد الربوبية، ما وجد في حكاياتهم وقصصهم من اعتقادهم بالربوبية ويشهد بذلك أشعارهم وما نقل عن حكمائهم وحنفائهم، كخطب قس بن ساعدة وزيد بن عمرو وأبي ذر الغفاري قبل إسلامه([11]).
كما يدل على ذلك اعتقادهم بأنهم كانوا على دين إبراهيم وإسماعيل وكانوا يعترفون برسالتهما وإن حصل لهم فيها خبط([12]).
كما يدل لذلك ما كانوا يقولونه في تلبيتهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلكم قد قد" فيقولون: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك يقولون: هذا وهم يطوفون بالبيت]]([13]).
الاستشهاد بأقوال العلماء الذين صرحوا باعتراف المشركين بالربوبية:
هذه المسألة واضحة جداً لا تحتاج إلى تطويل لولا أن بعض الناس ظنوا أن المشركين لا يعترفون بالربوبية- مع وضوح الأدلة- فاقتضى الأمر إلى الاستشهاد بأقوال العلماء الذين، صرحوا بذلك، فالعلماء الذين صرحوا بذلك كثيرون، نقتصر على الإشارة إلى بعضهم فنقول وبالله التوفيق:
1- فمن العلماء الذين صرحوا بذلك الإمام أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت:267هـ) فإنه ذكر الفطرة التي فطر الناس عليها ثم قال: (فلست واجداً أحداً إلا وهو مقر بأن له صانعاً ومدبراً، وإن سماه بغير اسمه، أو عبد شيئاً دونه ليقربه منه عند نفسه، أو وصفه بغير صفته أو أضاف إليه ما تعالى عنه علواً كبيراً، قال تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ))([14])[الزخرف:87].
2- الإمام أبو الحسن الأشعري (ت:324هـ) فإنه قال: إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى سائر العالمين، وهم أحزاب وفرق منهم كتابي وبرهمي ودهري، ووثني ومجوسي (وصاحب صنم يعتكف عليه، ويزعم أن له رباً يتقرب بعبادة ذلك الصنم إليه)([15])فبين الأشعري أن أهل الأصنام مقرون بالرب تعالى.
3- الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن حزم (ت:456هـ) فإنه ذكر في مسألة الفرق بين الكفر والشرك، أن المشركين واليهود والنصارى والمجوس والبراهمة مقرون بالله تعالى فلم ينكره جملة ويجحده إلا الدهرية فقط([16]).
4- الشهرستاني محمد بن عبد الكريم المتكلم (ت:548هـ)، فقد ذكر أن تعطيل العالم عن الصانع لا يعرف قائله إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية ثم ذكر مجمل مقالتها في تفسير خلق العالم، ثم ذكر أن هذا القول لا يدل على إنكار قائله بالصانع، ثم ذكر أن الفطرة الضرورية دلت على الصانع، ثم ذكر أنه لهذا لم يرد التكليف بمعرفة الصانع وأن هذا هو السبب في كون محل النزاع بين الرسل وبين الخلق في التوحيد ونفي الشريك، ثم استدل على ذلك بقوله تعالى: ((ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا)) [غافر:12]، وغير ذلك من الآيات([17]).
5- القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء (ت:458هـ): (فليس أحد إلا وهو يقر بأن له صانعاً ومدبراً وإن سماه بغير اسمه. قال تعالى: ((ولئن سألتهم))([18]).
6- أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي (ت:597هـ)، فقد ذكر الفلاسفة ثم قال: (وما قد حكى لهؤلاء الفلاسفة من جحد الصانع محال، فإن أكثر القوم يثبتون الصانع، ولا ينكرون النبوات، وإنما أهملوا النظر فيها، وشذ منهم قليل فتبعوا الدهرية الذين فسدت أفهامهم با لمرة)([19]).
وذكر ابن الجوزي أيضاً أن كثيراً من أهل الهند يعتقدون الربوبية وأن لله ملائكة([20]).
7- الفخر الرازي محمد بن عمر (ت:604هـ).
فقد ذكر إقرار المشركين بالربوبية في تفسيره في مواضع منه([21])، منها قوله: (اعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله تعالى شريكاً يساويه في الوجوب والقدرة والعلم والحكمة، وهذا مما لم يوجد إلى الآن، لكن الثنوية يثبتون إلهين، أحدهما حكيم يفعل الخير، والثاني سفيه يفعل الشر، وأما الاشتغال بعبادة غير الله ففي الذاهبين إليه كثرة...)([22]).
8- أبو محمد العز بن عبد السلام: (ت:660هـ) فقد ذكر في قوله تعالى: ((أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ)) [النحل:17]، أنه لا يمكن أن يقال: (إنهم كانوا يعظمون الأصنام أكثر من تعظيم الله؛ لأنه ليس الأمر كذلك بل قالوا: ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى))([23])[الزمر:3]، وذكر العز أيضاً أن السجود للصنم قد يقصد به التقرب إلى الله تعالى واستدل على ذلك بآية الزمر([24]).
9- ابن منظور محمد بن مكرم أبو الفضل اللغوي (ت:711هـ)، فإنه ذكر في مادة (شرك) حديث تلبية الجاهلية وقولهم: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ثم قال: اللهم إنا نسألك صحة التوحيد والإخلاص في الإيمان، انظر إلى هؤلاء لم ينفعهم طوافهم ولا تلبيتهم ولا قولهم عن الصنم هو لك ولا قولهم تملكه وما ملك، مع تسميتهم الصنم شريكاً بل حبط عملهم بهذه التسمية، ولم يصح لهم التوحيد مع الاستثناء ولا نفعتهم معذرتهم بقولهم: ((إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى))([25])[الزمر:3].
15- شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد قرر هذه المسألة بأدلة مختلفة وذكرها في مواضع كثيرة من كتبه([26]) نذكر بعضها، فمنها: [ما ذكره من أن المتكلمين غاية أمرهم إثبات واجب الوجود (وهذا حق لم ينازع فيه لا معطل ولا مشرك)؛ لأن الناس متفقون على إثباته إلا ما يحكى عن بعضهم أنه قال: إن العالم حدث بنفسه وهذا لا يعرف قائله وإنما هو يقدر تقديراً، وهو مما يخطر في قلوب الناس فقط وليس قولاً معروفاً لطائفة معينة]([27]).
وقال أيضاً: [ومعلوم أن أحداً من الخلق لم يزعم أن الأنبياء والأحبار والرهبان والمسيح ابن مريم شاركوا الله في خلق السموات والأرض؛ بل ولا زعم أحد من الناس أن العالم له صانعان متكافئان في الصفات والأفعال؛ بل ولا أثبت أحد من بني آدم إلهاً مساوياً لله في جميع صفاته بل عامة المشركين بالله مقرون بأنه ليس شريكه مثله]([28]).
وقال أيضاً: (وإثبات توحيد الربوبية لم ينازع في أصله أحد من بني آدم وإنما نازعوا في بعض تفاصيله...)([29]).
وقد نبه شيخ الإسلام -رحمه الله- على أن هذا الموضع عظيم ينبغي معرفته لالتباسه على بعض الطوائف حتى وقعوا فيما ينافي الإسلام([30]).
11- ابن القيم شمس الدين أبو عبد الله (ت:751هـ) فإنه قال بعد أن ذكر اللات والعزى ومناة: (ولم يكن أحد من أرباب الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق وتميت وتحيي، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم اليوم عند طواغيتهم)([31]).
12- ابن أبي العز الحنفي علي بن علي (ت:792هـ) فقد ذكر توحيد الربوبية ثم ذكر أنه لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم وذكر أنه مفطور في البشر([32]).
13- المقريزي أحمد بن علي (ت:845هـ) فإنه ذكر قول المشركين في النار: ((تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الشعراء: (97-98)] ثم قال: (ومعلوم قطعاً أن هذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله في كونه ربهم وخالقهم، فإنهم كانوا كما أخبر الله عنهم مقرين بأن الله تعالى وحده هو ربهم وخالقهم...)([33]).
14- القاري علي بن سلطان الهروي الحنفي (ت:1514هـ) فقد ذكر أن توحيد الألوهية يستلزم توحيد الربوبية دون العكس لقوله تعالى: ((ولئن سألتهم...))([34]).
15- الدهلوي أحمدبن عبد الرحيم (ت:1176هـ)، فقد ذكر هذه المسألة وقررها في عدة مواضع من كتبه([35]) بتقرير حسن.
16- شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (ت:1206هـ) فإنه قد ذكر هذا الأصل وقرره في مواضع([36]) من كتبه ورسائله على أحسن الوجوه.
17- ابن عابدين محمد بن عمر الحنفي (ت:1252هـ) فقد ذكر في حاشيته على رد المحتار تعقيباً على كلام المؤلف أن الوثنية لا ينكرون الصانع تعالى كما لا يخفى، ثم ذكر أن عبدة الأوثان كانوا يقرون بالله تعالى، قال تعالى: ((ولئن سألتهم..)) الآية، ولكن كانوا لا يقرون بالوحدانية. قال تعالى: ((إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ))([37]) [الصافات:35].
18- ثم هناك علماء كثيرون([38]) صرحوا بهذا فنكتفي بهذا القدر.
كما اعترف بهذه الحقيقة([39]) كثير من أهل هذا العصر نكتفي منهم بما ذكره محمد عبد الله دراز، من أن المتدينين مهما بلغوا في الخرافة أي مبلغ لا بد أن يعترفوا بالإله الأعظم، وأما الأصنام والأوثان فيزعمون أنها مهبط لقوة غيبية... إلخ([40]).
ولا حاجة إلى إطالة البيان لهذا الواضح البين لولا زعم من يقول([41]): (إن أولئك المشركين ما كانوا جادين فيما يحكي ربنا عنهم من قولهم مسوغين عبادة الأصنام: ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) [الزمر:3].
ثم احتج هذا القائل بشبهة وهي:
1- أن الله سبحانه قد نهى المسلمين من سب أصنامهم بقوله تعالى: ((وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)) [الأنعام:108].
وزعم أن قول كلمة نقص في الحجارة التي يعبدونها- يتسبب عنه غضبهم غيرة على تلك الحجارة التي يعتقدون من صميم قلوبهم أنها آلهة تنفع وتضر، وأنهم (لو كانوا صادقين بأن عبادتهم لأصنامهم تقربهم إلى الله زلفى ما اجترؤوا أن يسبوه انتقاماً ممن يسبون آلهتهم، فإن ذلك واضح جداً في أن الله تعالى في نفوسهم أقل من تلك الحجارة).
الجواب عن هذه الشبهة على وجوه:
الوجه الأول([42]):
أن سبهم الذي يخشى أن يقع عند سب آلهتهم هو مقابلتهم لمن سب معبودهم بمثل سبه يريدون محض المجاراة فيتجاوزون الحد فيها، كما يقع كثيراً من المختلفين في الدين والمذهب، يسب نصراني نبي المسلم فيسب المسلم نبيه ويريد عيسى عليهما الصلاة والسلام، ويسب شيعي- يلاحي سنياً ويماريه- أبا بكر فيسب علياً والأول يعلم أن سب عيسى كفر كسب محمد عليهما الصلاة والسلام والثاني يعلم أن سب علي فسق([43]) كسب أبي بكر -رضي الله عنهما-، ومثل هذا يقع كثيراً بل كثيراً ما يتساب أخوان من أهل دين واحد يسب أحدهما أب الآخر أو معبوده فيقابله بمثل سبه، يغيظه بسب أبيه مضافاً إليه، ويعده إهانة له، فيسبه مضافاً إلى أخيه إهانة لأخيه، وهذا كله من حب الذات، والجهل الحامل على المعاقبة على الجريمة بارتكابها عينها يهين والده المعظم عنده ومعبوده الذي هو أعظم منه احتماء لنفسه وعصبية لها، وقد جاء في الصحيح عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: (من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه...)([44]).
ومما يشهد لهذا الوجه ما ورد في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمد على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فلطم المسلم اليهودي فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم واشتكى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {الا تخيروني على موسى}([45]).
وقال عليه الصلاة والسلام: {ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى}([46])، وكل هذا لئلا يفضي إلى المخاصمة والمنازعة ثم يؤدي ذلك إلى الازدراء والانتقاص للمفضول بدون قصد.
وعلى هذا الوجه المتقدم يحمل قوله تعالى: ((عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)) [الأنعام:108]، على أن المراد بالعلم المنفي: (العلم الحضوري الباعث على العمل وهو إرادة السب التي يقصد بها إهانة المسبوب، فإن الساب هنا لا يتوجه قصده إلا إلى إهانة مُخَاطَبه الذي سبه)([47]).
الوجه الثاني:
ليس المراد أنهم يسبونه صريحاً ولكن يخوضون في ذكره فيذكرونه بما لا يليق به ويتمادون في ذلك بالمجادلة فيزدادون في ذكره بما لا يليق بالله تعالى، وقد قال بهذا الوجه الراغب الأصفهاني([48]).
فالمراد أنهم يقولون ما يستلزم سبه بحيث يفهم ذلك منهم، وإن لم يَعلَم ذلك قَائِلُه([49]) وليس ذلك غرضه.
الوجه الثالث:
أن معنى سبهم لله تعالى هو سبهم وعيبهم لأمر المسلمين فيعود ذلك إلى الله تعالى، لا أنهم كانوا يصرحون بسب الله تعالى لأنهم كانوا يقرون أنه خالقهم وإن أشركوا به، وقد قال بهذا الوجه ابن الجوزي([50]).
ويقرب هذا الوجه أن الكفار إذا عيب دينهم فلا بد أن يعيبوا دين المسلمين والشريعة الإسلامية وما جاءت به من العبادات والأحكام، فيؤدي ذلك إلى سب من شرع هذا الدين الحنيف وهو الله تعالى.
الوجه الرابع:
أنهم ربما كان في جهالهم من كان يعتقد بأن إله محمد شيطان يحمله على ادعاء الرسالة، وليس خالق السموات والأرض، فكان يشتم إله محمد على هذا التأويل، وهذا الوجه أبداه الرازي احتمالاً([51]).
ويؤيد هذا الوجه أن المتخاصم ربما يعتقد أن خصمه لا يعبد الله تعالى بل يعبد إلهاً آخر؛ لأنه يصف معبوده بما لا يصح أن يوصف به الله تعالى عنده، وقد ثبت عن بعض المختلفين في الأديان وفي مذاهب الدين الواحد وصف ربهم وإلههم بصفات، ورب خصومهم وإلههم بصفات تناقضها، أو تضادها كما يقول مثبتو الصفات ونفاتها بعضهم في بعض، مع أن الجميع يقولون: إنهم يعبدون الله خالق السموات والأرض وما بينهما وما فيهما([52]).
الوجه الخامس:
أن هؤلاء يعلمون أن الله أجل وأعظم من أصنامهم، ولكن تهوى أنفسهم هذه الأصنام أكثر وتحبها حباً أفضل من حب الله تعالى في أشياء مخصوصة باعتباراتٍ مخصوصةٍ، وليس تفضيلاً مطلقاً، وقد أشار إلى هذا الوجه شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث ذكر هذه الآية والآية الآتية وقول أبي سفيان الآتي فأجاب بهذا الوجه([53]).
الوجه السادس:
معنى السب لله تعالى هو تماديهم في الشرك به، فالشرك مسبة لله تعالى، وأي مسبة أعظم من عبادة غيره معه أو ادعاء الولد والصاحبة له؟ ويدل على هذا الحديث القدسي، قال تعالى: (يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ويكذبني وما ينبغي له، أما شتمه فقوله إن لي ولداً...)([54]).
وهذا التمادي في الشرك يحصل من التعصب للآلهة وذلك أن الخصم عندما يسمع سبه وسب معبوده- لا يصغي إلى الحجة ولا يلقي لها بالاً بل يحاول أن يدفع البراهين الساطعة والأدلة الدامغة بدون تأمل ولا روية، ولكن عندما يعلم أن خصمه لا يريد إهانته ولا سب معبوده وإنما يريد الحق والإنصاف- يصغي إلى حجة خصمه وأدلته، ويفكر فيها بجد، وقد يصل في النهاية إلى الاقتناع ولهذا أمرنا الله تعالى بالمجادلة بالتي هى أحسن، قال تعالى: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...)) [العنكبوت:46].
هذا وقد بقيت وجوه أخرى ذكرت([55]) في توجيه الآية مثل أن المراد من سب الله سب رسوله، أو أن الآية في القائلين بالدهر ونفاة الصانع، وهذه الوجوه ضعيفة لا تناسب سياق الآية فالوجوه السابقة كافية لمن يريد الحق والله الموفق.
2- كما احتج هذا القائل([56]) أيضاً بآية ثانية زاعماً أنها تدل على أن الله تعالى أقل في نفوسهم من الحجارة وهي قوله تعالى: ((وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)) [الأنعام:136].
الجواب: أن الآية- بحمد الله- تدل على عكس فهم هذا الزاعم وذلك لأن معناها كما قال ابن عباس ومجاهد.
أنهم- يسمون لله جزءاً من الحرث- ولشركائهم وأوثانهم جزءاً، فما ذهبت به الريح أو سقط من جزء أوثانهم إلى جزء الله ردوه وقالوا: الله غني عن هذا، وأما ما ذهب من جزء الله إلى جزء أوثانهم لم يردوه وقالوا: إنها فقيرة ومحتاجة.
وقال السدي: (إذا هلك الذي يصنعون لشركائهم وكثر الذي لله قالوا: ليس بُد لآلهتنا من نفقة، وأخذوا الذي لله فأنفقوه على آلهتهم، وإذا أجدب الذي لله وكثر الذي لآلهتهم قالوا لو شاء أزكى الذي له فلا يردون عليه شيئاً مما للآلهة]([57]).
هذان التفسيران المأثوران يدلان على أن الله تعالى أعظم في نفوسهم من آلهتهم، لوصفهم الله تعالى بالغنى على التفسير الأول وبالمشيئة المطلقة على الثاني، ولوصفهم أوثانهم بالفقر والحاجة، وعدم المشيئة.
وهذا واضح جداً فالآية تدل على عكس ما زعمه، ثم إنا لو سلمنا أنها تدل على أن الله أقل من أصنامهم فلا نسلم أنها تدل على عدم اعتقادهم بالربوبية، لما مر في الآية السابقة من الوجه الخامس من أن التفضيل في أشياء مخصوصة ليس تفضيلاً مطلقاً.
3- واحتج أيضاً بشبهة أخرى ثالثة وهي قول([58]) أبي سفيان يوم أحد (اعل هبل) وقال: (ينادي صنمهم المسمى بهبل أن يعلو في تلك الشدة رب السموات والأرض ويقهره ليغلب هو وجيشه جيش المؤمنين الذي يريد أن يغلب آلهتهم)([59]).
الجواب عن هذه الشبهة بوجوه:
1- إن معنى اعل هبل- ظهر دينك([60]) - أو أظهر دينك([61])، وعلى هذا فهو يخبر بظهور دين هبل على دين المسلمين وليس على خالق السموات والأرض، أو يدعوه بأن يظهر دينه على دين المسلمين ويؤيد الأول تفسير ابن الجوزي له بقوله: (أي علا دينك)([62]).
2- ولو سلمنا أن معناه أن هبل أعلى من إله المسلمين فهو على قصد أن إله المسلمين غير خالق السموات والأرض، فإن المشركين لا يعترفون بأن الله هو الذي أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بل يقولون إنه ساحر وكاذب وشاعر إلى آخر ذلك.
ومن الدلائل الصريحة في ذلك قول سهيل بن عمرو في قصة الحديبية عندما أملى الرسول صلى الله عليه وسلم على الكاتب وهو علي بن أبي طالب: {هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله} فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله}([63]).
3- وإذا كان هناك احتجاج بكلام الكفار في الحرب فيقال لهذا القائل: ماذا تقول في قول أبي جهل يوم بدر: (اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة فكان ذلك استفتاحاً منه فنزلت:((إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ))([64])[الأنفال:19].
فقد استفتح أبو جهل بالرب دون اللات والعزى وهبل.
قد تبين مما سبق أن أكثر الأمم معترفون بتوحيد الربوبية، وخاصة مشركو العرب الذين نزل فيهم القرآن وأنهم إنما أشركوا بصرفهم العبادة لغير الله تعالى بزعمهم الشفاعة والوساطة والتقريب، وأن القول بنفي الربوبية لا يعرف إلا ما يقال احتمالاً وافتراضاً، أو من شرذمة قليلة فسدت فطرتها فتنكرت لما تفرضه الفطرة، وتوجبه البديهة وتظاهرت بالإنكار مع أنها في الحقيقة تقر بذلك: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ)) [النمل:14]، وقال موسى لفرعون: ((قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ)) [الإسراء:102].
وهذا الاعتقاد بالوساطة للأصنام والأوثان وغيرها- لا يمنع من أنه قد يوجد([65]) بعض الأفراد القليلين الذين قد ينسون الله بالكلية فيقصدون آلهتهم فقط وإن كانوا يعترفون ويعلمون بالنظر البرهاني أن لا بد من الاعتراف بالله تعالى.
ولكن مناقشتنا ليست في هؤلاء القلة وإنما هي في جمهور المشركين الذين نزل فيهم القرآن وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهؤلاء قطعاً يقرون بالربوبية ويعتقدون في الأصنام الشفاعة والتقريب وهم جَادونَ فيما يعتقدونه من ذلك كما دلت عليه الأدلة القاطعة التي ذكرناها ولله الحمد.
([1]) انظر الاحتجاج بهذه الشبهة في الدرر السنية: (40-41)، (32، 35)، وخلاصة الكلام ص:، وشواهد الحق: (142-149)، (153)، وفرقان القرآن للعزامي (ص:127-128)، ومفاهيم: (26)، ويراجع في الجواب إلى مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات: (161)، والدر النضيد: (16، 19).
([2]) نقل ذلك عنهم ابن جرير: (13/77-79)، وقد علق البخاري بصيغة الجزم قول عكرمة وذكر الحافظ أن أسانيد ابن جرير عن عطاء ومجاهد صحيحة. انظر الفتح: (13/494).
([11]) انظر أخبار هؤلاء الحنفاء في سيرة ابن إسحاق رواية يونس: (115-119)، وحجة الله البالغة: (1/124-127).
([26]) انظر بيان تلبيس الجهمية: (2/454-456)، ومنهاج السنة: (1/203)، (229)، (3/292-295)، (330)، ودرء تعارض العقل: (7/391، 396)، وبغية المرتاد: (360، 368، 373)، والتدمرية (ص:49)، والرد على المنطقيين: (293)، وقاعدة في التوسل: (15-17) و(124)، والفتاوى: (5/548-549) و(3/96-97) و(7/75-77) و(10/669)، (156) و(1/92) و(2/37-38)، والرد على البكري: (178-179)، وموافقة صحيح المنقول: (1/174-175)، وجامع الرسائل: (2/51-53)، والتسعينية ضمن الفتاوى الكبرى: (5/250).
([31]) زاد المعاد: (3/506) وقال ابن القيم أيضاً في المقارنة بين النصارى والمشركين: إن المشركين يأنفون من وصف آلهتهم بما يصف النصارى الله به والله أعظم في قلوبهم من ذلك (وإنما شرك القوم أنهم عبدوا من دونه آلهة مخلوقة.. وزعموا أنها تقربهم إليه لم يجعلوا شيئاً من آلهتهم كفواً له ولا نظيراً ولا ولداً..). اهـ. إغاثة اللهفان: (2/208)، ونحوه في مفتاح دار السعادة: (1/121)، وطريق الهجرتين (ص:45).
([35]) انظر الفوز الكبير (ص:23-26)، وحجة الله البالغة: (1/59-61) و(125)، والبدور البازغة (ص:124، 188)، كما في البصائر: (273، 274).
([36]) انظر مؤلفات الشيخ، قسم العقيدة: (155-157)، (200)، و(365-367)، و(398-399)، والرسائل الشخصية: (5/151-154) و(44-45).
([37]) حاشية ابن عابدين على رد المحتار: (4/226-227)، ونحوه في حاشيته على البحر الرائق: (5/139) وقد نقل ابن عابدين في رسائله: (1/362) عن إبراهيم الحلبي أن غلاة الروافض أسوأ حالاً من المشركين لأتهم اعتقدوا الألوهية في علي، والذين عبدوا الأصنام لم يعتقدوا الألوهية فيها وإنما عبدوها تقرباً إلى الله تعالى الذي هو الاله وإنما سموها آلهة لإشراكهم إياها له تعالى في العبادة.
([38]) قد ذكرنا بعضهم في أثناء ما تقدم منهم قتادة ومقاتل كما تفدم قريباً، ومنهم الكلبي المتخصص في شؤون الجاهلية فقد ذكر في كتابه (الأصنام) أشعاراً وحكايات تدل على ذلك ومن ذلك ما ذكره عن الرجل الذي نفرت له الإبل فسب الصنم الذي يريد أن يعبده المسمى بسعد فأنشد:
وَهَل سَعْدٌ إلاّ صخرَةٌ بِتَنُوْفَةٍ من الأرضِ لا يُدْعَى لِغَيّ ولارُشْدِ
أنظر الأصنام (ص:37) كما ذكر هذه الحكاية ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام: (1/81)، وإغاثة اللهفان: (2/159)، ومنهم الزجاج في معاني القرآن: (1/97-99)، ومنهم الأمير الصنعاني في تطهير الاعتقاد: (8-10)، والشوكاني في الدر النضيد: (17)، ومحمد صديق حسن خان في الدين الخالص: (1/209)، والسويدي في العقد الثمين: (61) وما بعدها، والألوسي في روح المعاني: (15/115)، والمعلمي في القائد (ص:103) فقال: أما مشركو العرب فإنهم قلدوا غيرهم من الأمم في الشرك العملي فقط.
([39]) انظر ما قاله المودودي في المصطلحات الأربعة (ص:19)، وعبد الحليم محمود في أبو الحسن الشاذلي: (90-91)، وأحمد صبحي منصور في السيد البدوي: (218)، (219-220)، والشيخ زكريا علي يوسف في الإيمان وآثاره: (89-90)، وانظر كلام المستشرق/دوزي في كتاب ابن تيمية والتصوف لمصطفى حلمي: (79).
([43]) ذكر شيخ الإسلام اختلاف العلماء في حكم من سب أحداً من الصحابة وأن منهم من كفره وحكم بقتله ومنهم من قال لا يكفر ولكنه يعزر ويؤدب ثم مال شيخ الإسلام -رحمه الله- إلى أن الحكم فيه تفصيل وأن منهم من لا يشك في كفره. اهـ. يراجع الصارم المسلول من (ص:567-587).
([60]) هكذا فسره ابن إسحاق كما في سيرة ابن إسحاق تحقيق سهيل ذكار: (333) ونقله عنه في الفتح: (7/352)، وفسره الكلبي في الأصنام: (28) أي علا دينك.
([61]) نقله هكذا عن ابن إسحاق في الروض الآنف: (3/170)، وفي سيرة ابن هشام: (3/93)، وفي نسخة لكتاب الأصنام أعل هبل أعل دينك.
([64]) أخرجه أحمد: (5/431)، وابن جرير: (9/207)، والحاكم: (2/82)، ونسبه في الدر المنثور: (3/175)، أيضاً إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والنسائي وابن المنذر وغيرهم كلهم من حديث عبد الله بن ثعلبة بن صعير وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي كما صححه الشيخ مقبل بن هادي الوادعي في الصحيح المسند من أسباب النزول: (72)، وللحديث شواهد من مراسيل التابعين، انظرها في الدر وابن جرير:.
([65]) انظر ما ذكره ابن الجوزي من تحسين الشيطان لبعضهم أنها الآلهة وحدها (تلبيس إبليس (ص:63) وما ذكره ابن القيم من أن من المشركين من يزعم أن معبوده هو الإله على الحقيقة أو أكبر الآلهة: (الجواب الكافي: (135)، وما ذكره الدهلوي من أن بعضهم قد ينسى جلال الله بالكلية فلا يعبد إلا الشريك بدون نية الوساطة (حجة الله البالغة: (1/161). ويمكن أن يقال: إن هؤلاء إنما زعموا في معبوداتهم أنها الإله الحق لزعمهم حلول الإله فيها أو سر الإله لا على أنها بذاتها هي الإله الأعظم، انظر بغية المرتاد: (521)، أو أن هذا الكلام افتراض من هؤلاء القائلين إذ لا يعرف القائل به كما أشار إليه ابن تيمية. والله أعلم. أو يقال إن هؤلاء القلة ليسوا من أصحاب الأصنام الذين يناقشهم القراَن، وإنما من بعض الدهرية كما يشير إلى ذلك كلام الأشعري السابق.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.