الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي
من رحمة الله وفضله علينا أن جعلَ لنا في هذه الحياة الدنيا محطاتٍ نتزودُ فيها بالإيمانِ والتقوى، ونمحو ما علقَ بقلوبنا من آثارِ الذنوبِ والغفلاتِ، نلتقط فيها أنفاسَنا، ونعيد ترتيبَ أوراقِنا، فنخرج منها بروحٍ جديدة، وهمةٍ عالية، وقوةٍ نفسية تعيننا على مواجهةِ الحياةِ وما فيها من جواذبَ وصوارفَ، وتيسر لنا أداء المهمةِ التي من أجلها خلقنا الله عز وجل. ومن أبرز هذه المحطات شهر رمضان المبارك.
ففي أول ليلةٍ من رمضانَ تُصفدُ الشياطينَ، وتُغلقُ أبوابُ النيران، وتُفتحُ أبوابُ الجنانِ، ويأتي المددُ من الله الرحمنِ، بأن يأمر مناديًا ينادي: يا باغي الخيرِ أقبلْ ويا باغي الشرِّ أقصر.
فإذا بك ترى الاستجابةَ السريعةَ في كل مكانٍ، المساجدُ امتلأت بالمصلينَ، وسَمعْتَ من النوافذِ والأبوابِ صوتَ الأذانِ والقرآنِ، كثرتْ الصدقاتُ، وتنافسَ الأئمةُ في ختم القرآنِ، وإذا بكَ في ساعةٍ واحدةٍ بمجردِ رؤيةِ الهلالِ ترى ثورةً شاملةً في حياةِ المجتمعِ، وتغييرًا عميقًا على كلِّ صعيدٍ.
قال صلى الله عليه وسلم عن أول ليلة من رمضان: (إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ مَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجِنَّانِ فَلَمْ يُغْلَقُ مِنْهَا بَابٌ، وَنَادَى مُنَادٍ: يَا بَاغِىَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِىَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ)([1]).
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا جاء رمضان فُتِّحَت أبوابُ الجنة، وغُلِّقَت أبوبُ النار، وصُفِّدَت الشياطين)([2])، وفي رواية لمسلم: (فتحتْ أبوابُ الرحمةِ، وغلقتْ أبوابُ جهنمَ، وسلسلت الشياطينُ)([3]).
اعلم يا أخي أن فتحَ أبوابِ الجنةِ في رمضانَ حقيقةً لا تحتاج إلى تأويلٍ، وهذه نعمةٌ عظيمةٌ ومنة ٌكريمةٌ من الله يتفضلُ بها على عبادِه في هذا الشهرِ، فأبوابُ الجنانِ مغلقةٌ لا تفتحُ إلا في تمامِ النعمةِ.
يقول ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73].
(أما الجنةُ فإنها دارُ الله ودارُ كرامته ومَحلُّ خواصه وأوليائِه، فإذا انتهوا إليها صادفوا أبوابَها مغلقةً فيرغبونَ إلى صاحبِها ومالِكها أن يفتحَها لهم، ويستشفعونَ إليه بأولي العزمِ من رسلِه، وكلُّهم يتأخرُ عن ذلك، حتى تقعَ الدلالةُ على خاتِمهم وسيدِهم وأفضلِهم صلى الله عليه وسلم، فيقولُ: (أنا لها)، فيأتي إلى تحتِ العرشِ ويخرُّ ساجدًا لربه فيدعه ما شاء أن يدعَه، ثم يأذنُ له في رفعِ رأسِه وأن يسألَ حاجتَه، فيشفعُ إليه سبحانه في فتح أبوابِها فيشفعه، ويفتحها تعظيمًا لخطرها وإظهارًا لمنزلةِ رسوله صلى الله عليه وسلم وكرامته عليه.
وإنَّ مَثَلُ هذهِ الدارِ التي هي دار مَلِكِ الملوكِ رب العالمين، إِنَّما يدخلُ إليها بعدَ تلكَ الأهوالِ العظيمةِ التي أولَها من حينِ عُقِلَ العبدُ في هذه الدارِ إلى أن انتهى إليها، وما رَكبَه منَ الأطباقِ طبقًا بعد طبقٍ، وقاسَاه من الشدائدِ شدةً بعد شدةٍ، حتى أذنَ اللهُ تعالى لخاتمِ أنبيائِه ورسلِه وأحبِّ خلقِه إليهِ أن يشفعَ إليه في فتحِها لهمْ.
وهذا أبلغُ وأعظمُ في تمامِ النعمةِ وحصولِ الفرحِ والسرورِ مما يقدرُ بخلافِ ذلك لئلا يتوهم الجاهلُ أنها بمنزلةِ الخانِ الذي يدخلُه من شاء، فجنةُ الله عاليةٌ غاليةٌ بين الناسِ، وبينها من العقباتِ والمفاوزِ والأخطارِ ما لا تُنالُ إلا به، فما لمن أَتبعَ نفسَه هواهَا وتمنَّى على الله الأمانيِّ ولهذهِ الدار؟! فلْيَعْدُ عنها إلى ما هو أولى بِه وقد خُلق له وهُيئ له)([4]).
وهنا يدركُ الإنسانُ قيمةَ فتحِ أبوبِ الجنةِ في رمضانَ، عجبًا لمن يعلمُ أن الجنةَ فوقَه موجودةٌ تُزخرفُ وتفتحُ أبوابُها في رمضانَ ثم لا يشتاقُ إليها ويسعى لها على الأجفانِ.
إن مستوى النعيمِ في هذه الدنيا معروفٌ، ومستوى النعيمِ هناك يليقُ بالخلودِ، إنها الجنةُ التي غرسَ غراسَها الرحمنُ بيده، إنها الجنةُ الجزاءُ الرفيعُ الخالصُ الفريدُ، الجزاءُ الذي يتجلى فيه ظلالُ الرعايةِ الخاصةِ، والإعزازُ الذاتي، والإكرامُ الإلهي والحفاوةُ الربانيةُ بهذه النفوس، {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
إنها الجنةُ التي اشتاقَ إليها الصالحونَ من هذه الأمةِ، فسلوا عنها جعفرَ الطيارَ، وعميرَ بن الحمامِ، وحرامَ بن ملحانِ، وأنسَ بن النضرِ، وعامرَ بن أبي فهيرةَ، وعمرَو بن الجموحِ، وعبدَ الله بن رواحة.
إنها الجنةُ دارُ كرامةِ الرحمنِ فهل من مشمرٍ لها، إنها الجنةُ فاعمل لها بقدرِ مقامِك فيها، إنها الجنة فاعملْ لها بقدرِ شوقِك إليها.
وفي رمضان تغلقُ أبوابُ النيرانِ فما يفتح منها بابٌ، فما أطيبها من نعمةٍ يمنُّ اللهُ بها على العبادِ، قال صلى الله عليه وسلم: (وأيم الذي نفسي بيده، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلًا وبكيتم كثيرًا) قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: (رأيت الجنة والنار) ([5]).
هل أحدثك عن النارِ؟ غمٌّ قرارُها، مظلمةٌ أرجاؤها، حاميةٌ قدورُها، فظيعةٌ أمورُها، عقابُها عميمٌ، عذابُها أليمٌ، بلاؤها شديدٌ، وقعرُها بعيدٌ، سلاسلُ وأغلالٌ، ومقامعٌ وأنكالٌ، زمانُهم ليلٌ حالكٌ، ضجيجُهم ضجيجٌ هالكٌ، يصطرخونَ فيها فلا يجيبهم مالكٌ.
أخي: عياذًا بالله أن تكونَ منْ قومٍ لباسهمْ نارٌ ومهادهم نارٌ، لُحُفٌ من نارٍ، وسرابيلهم القطران، ومساكنُ من نارٍ، في شر دارٍ، وأسوء عذابٍ، قد أكلوا النارَ، ومشوا على النارِ، لا يهدأونَ ولا ينامونَ ولا يموتونَ، يا صبيحَ الوجهِ، كم من وجه صبيحٍ ولسانٍ فصيحٍ غدًا بين أطباق النار يصيحُ.
وفي رمضانَ تصفد الشياطينَ، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين) ([6]).
وهذا (لفظ عامٌّ مرادُه خاص في تصفيدِ الشياطينِ إنما أراد بقوله: "صفدت الشياطين" مردةُ الجنِّ منهم، لا جميعَ الشياطينِ، إذ اسم الشياطينِ قد يقعُ على بعضهم) ([7]).
وعند الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة والبيهقي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفدت الشياطينُ ومردةُ الجنِّ، وغلقت أبوابُ النارِ فلم يفتح منها بابٌ، وفتحت أبوابُ الجنةِ فلم يغلق منها بابٌ).
قال القرطبي: (فإذا قيلَ كيف نرى الشرورَ والمعاصي واقعةً في رمضان كثيرًا، فلو صفدت الشياطينُ لم يقعْ ذلك؟ فالجواب: أنها إنما تقلُّ عن الصائمينَ بالصوم الذي حوفظ على شروطِه وروعيت آدابُه، أو المصفد بعضُ الشياطينِ وهم المردةُ لا كلهم كما تقدم في بعض الرواياتِ).
أو المقصود تقليلُ الشرورِ فيه، وهذا أمر محسوسٌ فإن وقوعَ ذلك فيه أقلُّ من غيره، إذ يلزم من تصفيدِ جميعِهم أن لا يقعَ في شرٌّ ولا معصيةٌ لأن لذلك أسبابًا غير الشياطينِ كالنفوسِ الخبيثةِ والعاداتِ القبيحةِ والشياطينِ الإنسيةِ.
فلا تغتروا باجتهادِ الشياطينِ الإنسية في رمضانَ ليصرفوكم عن شهركِم، واستقيموا يرحمكم الله، واكشفوا مخططاتِهم، وافضحوا زورَهم وبهتانَهم، وسيروا على دربِ الله تجدوا المددَ والعونَ من الله، {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 65].
ومن سابغِ جودِ الله وعظيمِ كرمِه؛ تفضلُه في هذا الشهرِ بعتقِ عبادِه من النيرانِ، (ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة)، ما أسعدَ هؤلاء المعتوقينَ في رمضان، هنيئًا لهم الجنة، هنيئًا لهم النجاة من النارِ، هنيئًا لهم نياتهم الطيبة، هنيئًا لهم سرائرهم النقية، هنيئًا لهم الرضوان.
وفي رمضانَ ينادي المنادي: يا باغي الخيرِ أقبل، ويا باغي الشرِّ أقصر، من أرادَ الطاعةَ في هذا الشهر الكريم فسبيلُها سهلٌ ميسورٌ، فأقبل بكل عزيمتك، بادر بكل أشواقِك، ومن أراد معصيةَ الله في هذا الشهر نودي: كفَّ عن عصيانِك واحذر.
ولعل من المشاهدِ الملحوظةِ أنه إذا أقبل رمضانُ بدأ بعضُ العصاةِ يستعدون للتوبةِ، وكثيرًا ما يسألُ بعضُ الناسِ قبيلَ رمضانَ أسئلةً تدل على استعدادِهم للتوبةِ، وعزمِهم عليها، فيقول أحدهم: أنا عندي مظلمةٌ؛ فكيف أتخلصُ منها؟ ويقول آخر: أنا أقعُ في المعصية الفلانية؛ فكيف أتوبُ منها؟ ويقول غيره: أنا أقصرُ في الطاعةِ الفلانية؛ فكيف أحافظُ عليها؟ وهكذا يتأهبونَ للتوبةِ قبل رمضانَ، ملبينَ النداء يا باغي الخيرِ أقبل ويا باغي الشرِ أقصر.
هلموا إلى رضوانِ الله، فأبوابُ الجنة مفتحةٌ، وأبوابُ النار مغلقةٌ، والشياطينُ مصفدةٌ، والأجواءُ مهيئةً للطاعةِ، وقوافلُ العتقاء يُزفونَ كلَّ يومٍ إلى الجنةِ، والمنادي ينادي يا باغي الخيرِ أقبل ويا باغي الشرِ أقصر، فلا عجبَ إذًا أن يقول صلى الله عليه وسلم: (رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَانْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ) ([8]).
فمن لم تنلْهُ الرحمةُ مع كل ذلك فمتى تناله إذًا؟! ومن لم يكن أهلًا للمغفرةِ في هذا الموسمِ ففي أي وقتٍ يتأهلُ لها؟! نسأل الله تعالى أن يجعلنا من عتقائِه من النارِ ومن المقبولينَ.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.