الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي
لقد تركَ لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هديًا قاصدًا بصفة عامة، وفي هذا الشهر العظيم بصفة خاصة، يختص بعباداتنا وتعاملاتنا بل وطعامِنا وشرابنا.
عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تسحَّروا فإنَّ في السَّحورِ بركةٌ)([1])، ففي السحور بركة "لأنه يُقوِّي على الصيامِ ويُنشِّط له وتحصلُ بسببِه الرغبةُ في الازدياد من الصيامِ لخفةِ المشقةِ فيه على المتسحر"([2]).
بل سماه النبي صلى الله عليه وسلم بالغداءِ المبارك، كما في سنن أبي داود عن العرباض بن سارية أنه قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السحور في رمضان فقال: (هلمَّ إلى الغداءِ المباركِ).
نعم إنه طعامٌ مباركٌ، فإلى جانبِ كونه معينًا على الصيام، تتعلقُ به أوجه للخيرِ متعددة من ذكرٍ لله أو دعاءٍ في وقت السحر، وربما قام العبدُ بعد سحوره بركعتينِ في جوفِ الليل.
قد لا يكون الإنسانُ بحاجةٍ لأن يتسحرَ، كأن يكون فاقدًا للشهية مثلًا، فهل يُرغمُ نفسَه على الطعامِ لنيلِ أجرِ السحور؟ أم يتركه فيُحرمُ بركتَه وأجره؟
لا هذا ولا ذاك أيها الأحبة، فحبيبكم صلى الله عليه وسلم الحريصُ عليكم قد أرشدَ إلى أن السحورَ يتحققُ ولو بجرعةِ ماءٍ، ففي الحديث: (السُّحورُ أكلةُ بركةٍ، فلا تدعوهُ ولو أن يَجرعَ أحدُكم جرعةَ ماءٍ، فإنَّ اللهَ وملائكتَهُ يُصلُّونَ على المتسحِّرينَ)([3]).
الله أكبر، الله وملائكتُه يصلون على المتسحرِ؟ نعم يصلي عليكَ الرحمنُ أيها المتسحر بالثناءِ عليك، وتصلي الملائكةُ الكرامُ عليك بالدعاءِ والاستغفارِ لك، كلُّ هذا الفضل من أجلِ شهوةٍ، نعم شهوةِ الطعامِ، ولكنها اقترنت بعبادةٍ جليلةٍ ونيةٍ عظيمةٍ جعلتها سببًا لنيل تلك المكرمات.
ولئن كان السحورُ يتحققُ بأي شيءٍ ولو بشربِ ماء، إلا أنه صلى الله عليه وسلم قد بينَ لنا خير ما نتناولُه في سحورنا، حتى هذه لم يدعها الحبيبُ الذي لا يترك شيئًا ذا بال ينفعُ أمتَه إلا وأرشدها إليه.
إنه التمرُ الذي يسدُ جوعة الفقيرِ، ويقوي الفقيرُ والغنيُ، فوائدُه الصحية متعددةٌ، بل إنه يكفي لأن يكونَ طعام الإنسانِ لما فيه من فوائدَ ومنافعَ صحيةٍ، وكما تعلمون أن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (إنْ كنا لننظرُ إلى الهلالِ، ثم الهلالِ، ثلاثة أهِلَّةٍ في شهرينِ، وما أوقِدَتْ في أبْياتِ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نارٌ. فقُلْتُ: يا خَالَةُ، ما كان يُعِيشُكم؟ قالتْ: الأسودانِ التمرُ والماءُ)([4]).
ولكن ما أدرانا أنه التمرُ خيرُ ما نتسحرُ عليه، إنه الحبيب صلى الله عليه وسلم، والذي قال: (نعمَ السحورِ التمرُ)([5]).
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يؤخرُ السحورَ، وهكذا كان يفعل أصحابه بما تعلموا من هديه المبارك، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أنه قال: (كنتُ أتسحرُ في أهلي ثم تكونُ سرعتي أن أدركَ السجودَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)([6])، أي في صلاةِ الصبحِ، ويفهم منه أنهم كانوا يتسحرون في أدنى وقت إلى طلوع الفجر.
بل إنه صلى الله عليه وسلم نص على السحور بين الأذانينِ الأول والثاني، فكأنه يطمئنُ أمتَه بالأكلِ والشربِ كما يشاءون دون حرجٍ بعد الأذان الأول الذي كان يرفعُه بلالٌ بن رباح رغبةً منه في أن يؤخروا سحورَهم، فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنَّ بلالًا يؤذنُ بليلٍ فكلوا واشربوا حتى يؤذنَ ابنُ أم مكتوم)([7]).
وكان صلوات الله وسلامه عليه شديدُ الحرص على السحورِ والتأكيدِ عليه لدى أمته، ورفعِ الحرج عنهم في أن ينالوا من هذا الطعامِ المباركِ وإن ضاق الوقت، إلى درجة أنه أباح لمن رفع لقمةً أو شربةَ ماء إلى فمه بأن يتمها حتى ولو طلع الفجر.
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعَ أحدُكم النداءَ والإناءَ على يده؛ فلا يضعْه حتى يقضيَ حاجتَه منه)([8]).
هذا عن سحور النبي صلى الله عليه وسلم وماذا عن إفطاره؟
فلئن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد استحب تأخيرَ السحورِ، فإنه على العكس من ذلكَ قد استحبَّ لأمتِه تعجيلَ الإفطارِ، وجعلَ التبكيرَ في الإفطارِ عند حلول وقتِه من علامةِ بقاءِ الأمةِ على خيريتِها، فيقول صلوات الله وسلامه عليه: (لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما عجلوا الفطرَ)([9]).
"فما دامَ الناسُ يبادرونَ إلى السنةِ ويتسابقونَ إلى الخيرِ فهم بخيرٍ لا يزالونَ بخيرٍ أما إذا تباطأوا ولم يفطروا مبادرينَ فإن ذلك هو الشرُّ ولهذا كان الرافضةُ المخالفون لسنةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم يؤخرونَ الفطورَ لا يفطرونَ إلا إذا اشتبكتِ النجومُ"([10])
وعن أبي عطية قال: (دخلتُ أنا ومسروق على عائشةَ فقلنا: يا أم المؤمنين، رجلان من أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم أحدُهما يعجل الإفطارَ ويعجل الصلاةَ والآخرُ يؤخرُ الإفطارَ ويؤخرُ الصلاةَ قالت: أيهما الذي يعجلُ الإفطارَ ويعجلُ الصلاةَ قال: قلنا: عبد الله يعني ابن مسعود، قالت: كذلك كانَ يصنعُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم)([11]).
ولو أفطرتَ أيها الصائمُ على أيِّ شيءٍ مباحٍ فلا حرج، إلا أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قد عود أمتَه على التماسِ الأفضلِ دائمًا، وهنا يأتي التمرُّ مرةً أخرى ليضعَ نفسَه على موائدِنا اقتداءً برسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
فعلام كان يفطرُ الحبيبُ؟ صح عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُفطِرُ على رطِباتٍ قبل أن يُصلِّيَ، فإن لم تكُنْ رطِباتٍ فعلى تمراتٍ، فإن لم تكُنْ تمراتٍ حسَا حسَواتٍ من ماءٍ)([12]).
إذًا هو الرطبُ، فإن لم يجد فالتمرُ، فإن لم يجد فالماءُ، هذا هو أفضلُ ما يفطرُ الإنسانُ عليه، فالمعدةُ بعد طولِ حرمان تحتاجُ إلى مواد رفيقةٍ لا ترهقها، وتوقظُها باللينِ وهذا يتوافرُ في الرطبِ والتمرِ والماءِ.
ومن ناحيةٍ أخرى يحتاجُ الصائمُ إلى مصدرٍ سريعٍ للسكرياتِ، والتمرُ مصدرٌ للسكريات الأحادية التي يسهل امتصاصها سريعًا، فيصلُ إلى الدمِ في فترةٍ لا تتجاوزُ عشرَ دقائق.
إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يا أحباب يفطرُ على الرطبِ أو التمرِ أو الماءِ ثم يصلي المغربَ، يواصلُ بعدها إفطارَه إذا شاءَ، إذا لا يليق بنا معاشرَ المؤمنينَ أتباعَ الحبيبِ أن يجلسَ الرجلُ منا في بيته ينتظرُ الأذانَ أمامَه مائدةٌ عليها ما لذ وطاب من الطعامِ، ويأكلُ ثم يأكلُ، حتى إذا فرغَ أدى فرض الله، أهذا يليق بأتباعِ خير الأنام؟
فلنفطر على هديِ النبي صلى الله عليه وسلم، ونؤدي صلاةَ المغرب في الجماعةِ فإذا انصرفنا فلنواصلَ الإفطار كما نشاءُ.
ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يكنْ ليملأَ معدتَه من طعامٍ في رمضانَ ولا غيره، فهو القائل صلى الله عليه وسلم: (ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنٍ، بحسبِ ابنِ آدمَ أكلاتٍ يُقمنَ صُلبَهُ، فإن كان لا محالةَ : فثلُث لطعامِه، وثُلُثٌ لشرابِه وثُلُثٌ لنفَسِه)([13]).
وكما عودنا الحبيب صلى الله عليه وسلم من ذكرِه ربَّه عز وجل في جميعِ أحيانه، في الصباحِ والمساءِ في بيتِه أو طريقِه أو غدوهِ ورواحِه بل في ساحاتِ الجهاد، فكان لا ينسى ذكرَ ربه في أيِّ موطنٍ يكون مدعاة للنسيان.
ففي الوقت الذي تتلهفُ فيه النفسُ لشربةِ ماءٍ بعد ظمأِ الصيامِ كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يذكرُ ربَّه عند فطره، فيقول إذا أفطر: (ذهبَ الظمأُ وابتلتِ العروقُ وثبتَ الأجرُ إن شاء الله)([14]).
وربط النبي صلى الله عليه وسلم الإفطارَ بغروبِ الشمس، جعل ذلك إيذانًا بأن يفطرَ الصائمُ، فقال: (إذا رأيتَ الليلَ قد أقبلَ من ها هنا فقدْ أفطرَ الصائمُ)([15]).
ومعناه: "انقضى صومُه وتمَّ ولا يوصفُ الآن بأنه صائمٌ، فإنه بغروبِ الشمسِ خرجَ النهارُ ودخل الليلُ، والليلُ ليس محلًا للصومِ"([16])، فجعلَ غروبَ الشمس إيذانًا بالإفطار.
وإن وجدتَ في نفسكِ قوةً أيها الحبيب لمواصلةِ الصيامِ ليوم آخر فلا تفعلْ، لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن وصالِ الصومِ مع أنه كان يصلُ صلى الله عليه وسلم، أتدري أيها الحبيب لم؟
استمع إلى حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذ تقول: نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل، قال: (إنِّي لستُ كهيئتِكم، إني يطعمُني ربي ويسقيني)([17]).
"والمعنى أن الله تعالى، يرزقُه قوةً على الصيامِ كقوةِ مَنْ أكلَ وشربَ"([18]).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.