الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي
كان صلى الله عليه وسلم يحفزُ أصحابَه على اغتنامِ شهرِ رمضانَ، مبينًا أسبابَ المغفرةِ التي أودعَها الله تعالى شهرَه المبارك، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يرغبُ في قيامِ رمضانَ من غير أن يأمرَهم فيه بعزيمة فيقول: (منْ قامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفرَ لهُ ما تقدمَ من ذنبِه) ([1]).
وقالَ صلى الله عليه وسلم (منْ صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفرَ له ما تقدمَ من ذنبِه، ومن قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غفرَ له ما تقدمَ من ذنبِه) ([2]).
نعمْ لنتأملَ قولَه صلى الله عليه وسلم: (إيمانًا واحتسابًا) لم يعلقِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مغفرةَ الذنوبِ على القيامِ والصيامِ فقط، وإنما اشترطَ (إيمانًا واحتسابًا) و(إيمانًا) أي تصديقًا بأنه حقٌّ. (احتسابًا) أي يريدُ الله وحدَه لا رؤيةَ الناسِ.
والإخلاصُ في العملِ شرطٌ أساسيٌّ لقبولِه، وبدونِه يُحبطُ العملُ، قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ لا يقبلُ من العملِ إلا ما كانَ له خالصًا وابتغي به وجهه)([3]).
ويشترطُ لقبولِ العملِ شرطان: الشرطُ الأول: الإخلاصُ. الشرطُ الثاني: متابعةُ سنةِ النبي صلى الله عليه وسلم. دلَّ على هذين الشرطين قوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
فالعملُ الصالحُ هو الموافقُ لسنةِ النبي صلى الله عليه وسلم. وقولِه: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] أي: يكونُ هذا العملُ صادرًا عن إخلاصٍ.
وقولُه عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء:125]، فإسلامُ الوجهِ هو إخلاصُ القصدِ والنيةِ، والإحسانُ هو متابعةُ سنةِ النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، لم يقلِ اللهُ عز وجل: أكثرَ عملًا، بل قال: {أَحْسَنُ عَمَلًا}.
فالامتحانُ في حسنِ العملِ وليس في كثرتِه. قال الفضيل بن عياض: أخلصُه وأصوبُه، فإنَّ العملَ إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل. فهذان شرطان لقبولِ أي عملٍّ، فينبغي للعبدِ أن يوفرَ هذين الشرطين: الإخلاصَ، والمتابعةَ.
تفقدْ قلبَك وأنت تنوي الصيامَ، هل تجلعه للهِ؟ تفقدْ قلبَك وأنتَ تقرأُ القرآنَ، هل تقرأُه لله؟ تفقد قلبكَ وأنت تصلي، هل صلاتُك لله؟ تفقد قلبَك وأنت تتصدقُ، هل إنفاقُك لله؟ هل تؤدي العباداتِ إيمانًا واحتسابًا؟
والإخلاصُ: هو إفرادُ الله عز وجل بالقصدِ في العبادةِ، أي: أن يعملَ العبدُ العملَ لا يريدُ به إلا وجه الله عز وجل. وقيل: هو تجريدُ قصدِ التقربِ إلى الله عز وجل من جميعِ الشوائبِ.
وقد اجتهدَ السلفُ الصالحُ في تحصيلِ الإخلاصِ، وتحريرِ النفسِ من غير الله تعالى، قيل للإمامِ سهل: يا أبا محمد! أيُّ شيءٍ أشدُّ على النفسِ؟ قال: الإخلاصُ؛ إذ ليس لها فيه نصيبٌ.
فالنفسُ تحبُّ الظهورَ والمدحَ والرياسةَ، وزُينتْ لها الشهواتُ من النساءِ والبنينَ والقناطيرِ المقنطرةِ من الذهبِ والفضةِ والخيلِ المسومةِ والأنعامِ والحرثِ، فحتى يتيسرَ للعبد الإخلاصُ وتختمَ به أعمالُه ينبغي عليه أن يقطعَ حبَّ الدنيا من قلبِه، وأن يملأَه بحبِّ اللهِ عز وجل، فيكون المحركُّ له من داخلِه محبةَ الله عز وجل وإرادةَ الدار الآخرة، فعند ذلك يتيسرُ عليه الإخلاص، وأما غيرُه فبابُ الإخلاصِ مسدودٌ عليه إلا في النادرِ.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: لو أعلمُ أن الله عز وجل يقبلُ مني سجدةً بالليلِ وسجدةً بالنهارِ لطرتُ شوقًا إلى الموت، إن الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. فالإخلاصُ من أشدِّ الأشياءِ على النفسِ.
وقال عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] فكلُّ عملٍ كان بإرادة غيرِ اللهِ مشوبًا مغمورًا يجعلُه الله عز وجل يومَ القيامةِ هباءً منثورًا.
وقال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]. وقال عز وجل: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]، أي: لا يقبلُ الله عز وجل إلا الدينَ الخالص.
وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيتَ رجلًا غزا يلتمسُ الأجرَ والذكرَ - أي المدحَ - فما له؟ قال: لا شيءَ له، فأعادها السائلُ عليه ثلاث مرات، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا شيءَ له، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله لا يقبلُ من العملِ إلا ما كانَ له خالصًا وابتغي به وجهَهُ)([4]).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّما الأعمالُ بالنياتِ، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى)([5]) أيْ أنَّ العملَ مهما كانَ موافقًا للسنةِ فإنَّه لا يُقبلُ إلا بتوفرِ النيةِ الصالحة.
وقولُه صلى الله عليه وسلم: (إنَّما الأعمالُ بالنياتِ) يخصُّ الطاعاتِ والمباحاتِ دونَ المعاصي، فإن المعصيةَ لا تصيرُ طاعةً بالقصدِ الصالحِ والنيةِ الصالحةِ، ولكنَّ العملَ المباحَ تقوى النيةُ الصالحةُ على رفعِه إلى درجةِ الطاعاتِ، فيمكن للعبدِ أن يتاجرَ بمباحاتِه مع اللهِ عز وجل، فالنيةُ الصالحةُ ترفعُ رتبةَ المباحِ فتجعلُه من القرباتِ والطاعاتِ، ولكنْ لا تقوى النيةُ الصالحةُ على أن تقلبَ البدعةَ سنةً أو تقلبَ المعصيةَ طاعةً. هذا الشرط الأولْ من شرطي قبولِ العمل، وهو الإخلاصُ.
وأما الشرطُ الثاني: هو متابعةُ سنةِ النبي صلى الله عليه وسلم، دلَّ على هذا الشرط قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم: (منْ عملَ عملًا ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ)([6]) فكلُّ عملٍ لا يندرجُ تحتَ الشريعةِ ولا تكونُ شريعةُ النبي صلى الله عليه وسلم حاكمةً عليه بالصحةِ فهو مردودٌ على فاعلِه وغير مقبول مهما كانت نيةُ صاحبِه؟
فمن عملَ عملًا لا يندرج تحت الشريعة ولم تكنْ شريعةُ النبي صلى الله عليه وسلم حاكمةً عليه بالصحةِ فهو ردٌّ، بمعنى مردودٌ.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ)([7]).
فخيرُ أمورِ الدينِ ما كانَ سنةٌ، وشرُ الأمورِ المحدثاتُ البدائعُ، قال عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كُفيتم. وقال الإمامُ مالك: الاعتصامُ بالسنةِ نجاةٌ؛ لأن السنةَ مثلَ سفينةِ نوحٍ من ركبَها نجا ومنٍ تخلَّفَ عنها هلكَ. قال الحسنُ البصريُّ: ادعى ناسٌ محبةَ الله عز وجل فابتلاهم الله عز وجل بهذه الآية: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
وحينما يتبعُ المرءُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فلا خوفَ عليه، دخلَ المعتمرُ بن سليمان على أبيه وهو منكسرٌ فقال: ما لك؟ قال: ماتَ أخٌ لي، قال: ماتَ على السنةِ؟ قال: نعمْ، قال: وتحزن عليه؟!
وقال سفيان الثوري رحمه الله: لا يُقبلُ قولٌ إلا بعملٍ، ولا يستقيمُ قولٌ وعملٌ إلا بنيةٍ، ولا يستقيمُ قولٌ وعملٌ ونيةٌ إلا بمتابعةِ السنةِ.
وقال الحسنُ البصري: السنةُ - والذي لا إله إلا هو - بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهلَ السنةِ كانوا أقلَّ الناسِ فيما مضى وهم أقلُّ الناسِ فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهلِ الإترافِ في إترافِهم، ولا مع أهلِ البدعِ في بدعِهم، وصبروا على سنتِهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا.
وقد بشّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ببقاءِ طائفةٍ ظاهرةٍ على الحقِّ، ترفعُ رايةَ السنةِ وتقيمُ الحجةَ على سائرِ الخلق، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرينَ على الحقِّ لا يضرُّهم منْ خذَلَهم حتى يأتيَ أمرُ الله وهمْ كذلك)([8]).
فلا يأتي على أمةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم زمانٌ تُحرّفُ فيه الكتبُ ويضلُّ الناسُ ويضيعُ الحقُّ في الأمةِ كما أتى على اليهودِ والنصارى، بل لا بد أن تبقى طائفةٌ مستمسكةٌ بالسنةِ، ترفعُ رايتَها وتُقيمُ الحجةَ على سائرِ أهلِ زمانِها، حتى يأتيَ أمرُ الله وهمْ كذلك.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.