الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي
(أسألُكَ حبَّك، وحبَّ مَنْ يحبُّك، وحبَّ عملٍ يقربُ إلى حبِّك)([1]).
إنه سيدُ المحبين لربِ العالمينَ؛ يناجي بها ربَّه ومولاه؛ أتدري من هو؟ إنه محمدٌ صلى الله عليه وسلم، عبدُ الله ورسوله، وحبيبهُ وخليلهُ، كانت حياته كلها حبًّا لربه جل وعلا.
وها هو صلى الله عليه وسلم يقومُ من الليلِ، حتى تتفطر قدماهُ الشريفتان، ثم يُسأل عن ذلك: يا رسول الله، تفعلُ هذا وقد غُفر الله لكَ ما تقدمَ من ذنبِك وما تأخرَ؟ فيقول: (أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا)([2]).
وتأمل في هذا الموقفِ الجليلِ، الذي يفيضُ بالحبِ من الخليلِ لخليله، ترويه الصديقةُ بنتُ الصديقِ، أُمُّنا عائشة رضي الله عنها، فعن عطاء قال:
(دخلتُ أنا وعبيدُ بن عميرٍ على عائشةَ رضي الله عنها، فقال عبد الله بن عمير: حدثينا بأعجبَ شيءٍ رأيتيه من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم, فبكتْ وقالتْ: قام ليلةً من الليالي، فقال: (يا عائشة، ذريني أتعبدُ لربي)، قالت: قلتُ والله إني لأحبُّ قربكَ، وأحبُّ ما يسرك، قالت: فقامَ، فتطهرَ، ثم قام يصلي، فلم يزلْ يبكي حتى بلَّ حجرَه، ثم بكى، فلم يزل يبكي حتى بلَّ الأرض.
وجاء بلالٌ يؤذنه بالصلاةِ، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، تبكي، وقد غَفَر اللهُ لك ما تقدَّمَ من ذنبِك وما تأخر؟ قال: (أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟! لقد نزلت عليَّ الليلة آياتٌ، ويلٌ لمن قرَأَها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190])([3]).
وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبَه أمرٌ وضاقتْ عليه الدنيا يفزعُ إلى الصلاةِ، أليسَ هو القائلُ صلى الله عليه وسلم: (يَا بِلاَلُ أَقِمِ الصَّلاَةَ أَرِحْنَا بِهَا)([4]).
وتبلغ ذروةُ مظاهر حبِ النبي صلى الله عليه وسلم لربِه في ساعةِ رحيله، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، إذ أتاه ملكُ الموتِ يخيره بين الخلودِ في الدنيا والجنةِ، وبين أن يلحقَ بربه في الرفيقِ الأعلى، فعلا صوتُ الخليل وكلُّه شوقٌ لخليله: (مَعَ الرَّفِيقِ الأَعْلَى، مَعَ الرَّفِيقِ الأَعْلَى)([5]).
فليتُكَ تحلو والحيــــــــــــــاةُ مريــــــــــرةٌ وليتكَ ترضى والأنامُ غِضـابُ
وليتَ الذي بيني وبينكَ عامرٌ وبيني وبينَ العالمينَ خـــــــــــــــــــرابُ
إذا صحَّ منكَ الودُ فالكلُ هينٌ وكلَ الذي فوقَ الترابِ تـرابُ
وعلى سيرتِه ونهجِه يتبعُه رجالٌ، منهم من قضى نحبَه ومنهم من ينتظرْ وما بدلوا تبديلًا؛ (فعن إسحاقَ بن سعد بن أبي وقاص قال: حدثني أبي أن عبدَ الله بن جحش، قال يومَ أحد: ألا تأتي ندعو الله تعالى، فخلوا في ناحيةٍ، فدعا سعد رضي الله عنه فقال: يا رب، إذا لقينا العدوَ غدًا، فلَقِّني رجلًا شديدًا بأسه، شديدًا حرده [غضبه]، أقاتلُه ويقاتلُني، ثم ارزقني الظفرَ عليه حتى أقتلَه وآخذْ سلبَه, فأمَّن عبد الله.
ثم قال: اللهم ارزقني غدًا رجلًا، شديدًا بأسه، شديدًا حرده، فأقاتله ويقاتلني، ثم يجدع [يقطع] أنفِي وأذنِي، فإذا لقَيْتُك غدًا قلتَ لي: يا عبدَ الله، فيم جُدعَ أنفُك وأذناك؟ فأقول: فيكِ وفي رسولِك، فتقول: صدقتْ، قال سعد: كانتْ دعوتُه والله خيرٌ من دعوتي، فلقد رأيتُه آخرَ النهارِ وإنَّ أنفَه وأذنَه لمعلقةٌ في خيطٍ)([6]).
إنه الشوقُ والتفاني في محبةِ الله سبحانه وتعالى يودُّ أحدُهم لو أن بذلَ أغلى ما يمكن للوصولِ لرضى الرحيمِ الرحمنِ سبحانه وتعالى، ونحن في شهرِ الرحماتِ أفلا نقدمُ الثمنَ؛ أيها الأخُ الحبيبُ وأيتها الأختُ الفاضلة؛ عليك البداية وعليه التمام.
(وحبُّ العبدِ لربِه نعمةٌ لهذا العبد، لا يدركُها كذلك إلا من ذاقَها، وإذا كان حبُّ الله لعبدٍ من عبيده أمرًا هائلًا عظيمًا، وفضلًا غامرًا جزيلًا؛ فإن إنعامَ الله على العبدِ، بهدايتِه لحبه، وتعريفه هذا المذاقِ الجميلِ الفريدِ، الذي لا نظير له في مذاقاتِ الحبِّ كلِّها ولا شبيه؛ هو إنعامٌ هائلٌ عظيمٌ، وفضلٌ غامرٌ جزيلٌ.
وإذا كان حبُّ اللهِ لعبدٍ من عبيده أمرًا فوق التعبير أن يصفَه؛ فإن حبَّ العبدِ لربه أمرٌ قلما استطاعت العبارةُ أن تصوره إلا في فلتاتٍ قليلةٍ من كلام المحبين)([7]).
تعالوا نستمع ما يحدثُ لحبيب الرحمن عندما يُقبلُ في هذه الحياةِ الدنيا؛ (إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ إِنِّى أُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ؛ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِى فِى السَّمَاءِ فَيَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ؛ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى الأَرْضِ)([8]).
وهذا هو حالُ المحبِّ لله ربِّ العالمينَ كما وصفه الجنيدُ رحمه الله في إحدى لقاءاته الإيمانيةِ مع جمعٍ من إخوانِه، يومَ حاولَ كلٌّ منهم أن يصفَ العبدَ المحبَّ لربِّ العالمين، فتكلمَ الجميعُ، وكان الجنيدُ أصغرُهم سنًّا، فقالوا: هات ما عندك يا عراقي، فأطرقَ رأسُه، ودمعت عيناه، ثم قال:
(عبدٌ ذاهبٌ عن نفسِه، متصلٌ بذكرِ ربِّه، قائمٌ بأداءِ حقوقِه، ناظرٌ إليه بقلبِه؛ فإن تكلمَ فبالله، وإن نطقَ فعن الله، وإن تحركَ فبأمرِ الله، وإن سكنَ فمعَ الله، فهو باللهِ، ولله، ومع اللهِ)، فبكى الشيوخُ، وقالوا: ما على هذا مزيدٌ، جزاكَ الله يا تاجَ العارفين([9]).
ولأجلِ هذه المحبةِ؛ صارتْ أشهى الأوقاتِ عندما يتنزلُ الربُّ إلى السماءِ الدنيا، في ثلثِ الليل الآخرِ، يبيتونَ لربهم سجدًا وقيامًا، يبادلون ربهم حبًّا بحبٍّ، فاستنشق ـ يا أخيه ـ بعضًا من عبيرِ حبهم، حتى تلحقَ بركبهم.
(قال سعيدُ بن المسيب: إن الرجلَ ليصلي بالليلِ، فيجعل الله في وجهه نورًا, يحبُّه عليه كلُّ مسلمٍ، فيراه من لم يره قط، فيقول: إني لأحبُّ هذا الرجلُ, وقيل للحسن البصري رحمه الله: ما بالُ المتهجدين بالليلِ من أحسنِ الناسِ وجوهًا؟ فقال: لأنهم خلوْ بالرحمنِ فألبسَهم من نوره)([10]) .
(وأخذ الفضيلُ بن عياض رحمه الله بيد الحسين بن زياد رحمه الله، فقال له: يا حسين, ينزل الله تعالى كلَّ ليلةٍ إلى السماءِ الدنيا، فيقولُ الربُّ: كذبَ من ادعى محبتي، فإذا جَنَّهُ الليلُ نامَ عنِّي, أليسَ كلُّ حبيبٍ يخلو بحبيبِه؟!! ها أنا ذا مطلعٌ على أحبائِي إذا جنَّهم الليلُ، غدًا أقرُّ عيونَ أحبائِي في جناتي)([11]).
(وكان العبدُ الصالحُ عبد العزيز بن أبي رواد رحمه الله يُفرشُ له فراشُه لينام عليه بالليلِ، فكان يضعُ يدَه على الفراشِ، فيتحسَّسُه، ثم يقول: ما ألينَك!! ولكنَّ فراشَ الجنةِ ألينُ منكَ, ثم يقومُ إلى صلاتِه)([12]).
إن محبةُ اللهِ هي المنزلةُ التي فيها تنافسَ المتنافسونَ، وإليها شخصَ العاملون، وإلى علمِها شمَّرَ السابقونَ، وعليها تفانى المحبون، وبروحِ نسيمِها تروَّحَ العابدون، فهي قوتُ القلوبِ، وغذاءُ الأرواحِ، وقرةَ العيون، وهي الحياةُ التي من حُرمَها فهو من جملةِ الأمواتِ، والنورُ الذي من فقدَه فهو في بحارِ الظلماتِ، والشفاءُ الذي من عدمَه حلتْ بقلبِه جميعُ الأسقامِ، واللذةُ التي من لم يظفرْ بها فعيشُه كلُّه همومٌ وآلامٌ .
ويبقى السؤال: كيفَ نصلُ إلى هذه المحبة؟ تجدُ الإجابةَ واضحةً جليةً في قولِ رب العزة تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه.
ولا يزال عبدي يتقربُ إليَّ بالنوافلِ حتى أحبَّه.
فإذا أحببتُه؛ كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يبصرُ به، ويدَه التي يبطشُ بها، ورجلَه التي يمشي بها، ولئن سألنِي لأعطينهُ، ولئن استعاذني لأعيذنهُ)([13]).
حافظ على الفرائض من الصلوات الخمس في المسجد.
احسب زكاتك وأدها محبة لربك سبحانه وتعالى.
أدِّ حقَّ زوجتك وأولادك طاعة لربك عز وجل.
حسن أخلاقك مع جيرانك امتثالًا لوصية جبريل لنبينا صلى الله عليه وسلم.
تخير من النوافل ما تقدرُ عليه وداوم عليه وإن قل.
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.