الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ قد أجمع المسلمون على وجوب تعظيم المصحف واحترامه([1])، وقد دلَّت النصوصُ الشرعية على ذلك؛ ومنها قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، والشعائرُ جمعُ شعيرةٍ، وهي كل شيء لله تعالى فيه أَمْر أَشْعَرَ به وأَعْلَمَ([2])، والمصحفُ فيه أوامرُ الله، وفيه إعلامٌ بما يحبه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه([3]).
وصور تعظيم القرآن عديدة؛ منها - وهو أفضلها - قراءتُه والعملُ بما فيه، وإبعادُه عن القاذورات والنجاسات وغير ذلك([4])، أما القيام للمصحف إذا أُدخِل على قومٍ في مجلس أو تقبيله، فلم يثبت في ذلك شيءٌ عن النبي r ولا عن الصحابة الكرام؛ لذا اعتبر أهلُ العلم والتحقيق هذا العملَ من البدع المحدثة في الدين.
فهذا الإمام العز بن عبد السلام - رحمه الله -، قال في معرض كلامه عن صور احترام المصحف: (احترامُ المصحفِ أنواع؛ أفضلها: العملُ بما فيه، والثاني: إبعادُه من النجاسات، والثالث: إبعادُه من المستقذرات كالمخاطِ والبصاقِ، الرابع: إبعادُه من مسِّ المحدثين ثم المجنبين ثم الحُيَّض، ثم حملها منفردة، ثم حملها مع الأمتعة، وأما القيامُ للمصاحف فبدعةٌ لم تعهد في الصدرِ الأول، وإنما ثبتت هذه الحُرم إجلالًا لربِّ العالمين، وتعظيمًا لكتابِه أن يُسوَّى بينه وبين كتب غيره)([5]).
ويؤكد ما صرَّح به الإمام العز من بدعية القيام للمصحف، كلامُ شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لما سُئل عن القيام للمصحف فقال: (القيامُ للمصحف لا نعلم فيه شيئًا مأثورًا عن السلف، قال: والأفضل للناسِ أن يتَّبِعوا طريقَ السلف في كلِّ شيء، فلا يقومون إلا حيث يقومون)([6]).
وأما ما ذهب إليه بعضُ العلماء من استحباب القيام للمصحف وتقبيله، فليس لهم من الأدلة في ذلك إلا القياس، أما القيام للمصحف فقاسوا على استحباب القيام للعالم، وقالوا: فالمصحف أولى بالقيام([7])، وأما تقبيل المصحف فقاسوا على تقبيل الحجر الأسود، وقالوا القرآن كلام الله فهو بذلك أحق([8]).
قلتُ: وفي هذا الاستدلال نظر، لأن القيام للعالم مُخْتَلَفٌ فيه([9])؛ لعدم ورود نصٍّ صريح في ذلك، فلا يُقاس المصحف على العالم لعدم وجود النص فيه صراحة، فكيف يثبت حكمٌ بحكمٍ مُخْتَلَفٍ فيه قياسًا؟ ثم القيام للمصحف فلا يكون إلا عبادة ولا تثبت العبادة إلا بنصٍّ، والله أعلم.
وكذلك "تقبيل المصحف" فالمقصود منه التعظيم، والتعظيم عبادة، والعبادة لا تثبت بالقياس - كما تقرر فيما سبق - وإنما مبناها على دليلٍ صريحٍ صحيحٍ.
وأخيرًا؛ سُئِلَت اللجنة الدائمة عن حكم تقبيل القرآن؟ فأجابت قائلة: (لا نعلمُ دليلًا على مشروعيةِ تقبيل القرآن الكريم، وهو أُنْزِلَ لتلاوته وتدبره وتعظيمه والعمل به، وبالله التوفيق)([10]).
الهوامش
([1]) انظر: المجموع، النووي، ص(276)، والقرآن الكريم ومنزلته بين السلف ومخالفيهم، محمد هشام الأفغاني، (1/368).
([7]) انظر: التبيان، النووي، ص(276)، والقرآن الكريم ومنزلته بين السلف ومخالفيهم، محمد هشام الأفغاني، (1/372).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.