الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛
إن هذه الشبهات التي احتجوا بها، ما صحَّ منها يعد من المتشابهات، والواجب في مثل هذا ردُّ المتشابهات إلى المحكمات، وهذا هو شأن الراسخين في العلم.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7].
فالآيات والأحاديث الدالة على منع الدعاء غير المشروع محكمات، فهي صريحةٌ في دلالتها، قطعيةُ الثبوت، وقطعيةُ الدلالة، وذلك أن القرآن الكريم كله في التوحيد وبيان ما يناقضه أو يناقض كماله من الذرائع والوسائل، وبيان جزاء أهل التوحيد وأهل من اتصف بضدِّه في الدنيا والآخرة([2]).
وقد تقدَّم أنه لم يرِدْ في القرآن الكريم في نوعٍ من أنواع الشرك والكفر مثل ما ورد في الدعاء بنوعيه؛ مما يدل على التحذير منه وكفر من ارتكبه، ومثلُ القرآنِ السنةُ النبوية التي تشرحُ القرآنَ وتبينه.
فإذا كان الأمرُ كذلك فالواجبُ أن يُرد ما يشتبه أنه يخالف هذا المحكم البَيِّن إليه لا أن يؤخذ بالمتشابهات، ويتعسف في تأويل المحكمات، كما هو صفة الذين في قلوبهم زيغ؛ وقد حذَّر الرسولُ صلى الله عليه وسلم من الذين يتبعون المتشابهات، فقال في حديث عائشة - رضي الله عنها -: ذ([3]).
إن هؤلاء الذين يحتجُّون بهذه الشبهات، لا يَقْبَلُون في باب العقائد - حسب زعمهم - إلا القطعي من الأدلة، إذ من أصولهم([4]) المقررة لديهم أن غير قطعي الثبوتِ والدلالةِ - يريدون بذلك ما لم يكن متواترًا صريح الدلالة - لا يُقبل.
فالأحاديث المشهورة الصحيحة الثابتة الصريحة الدلالة يردونها في باب العقائد بهذه القاعدة المقررة لديهم، ولكنهم تناقضوا - في هذه المسألة التي معنا - لاحتجاجهم إما بما هو ليس صريح الدلالة أو بما هو غير ثابت أصلًا، وهكذا شأن من لم يعتصم بالكتاب والسنة فلابد أن يتناقض.
قال ابن عبد البر - رحمه الله - في مَعْرِضِ رده على من احتج بحديث ضعيف في مسألة الاستواء: (وهم لا يقبلونَ أخبارَ الآحادِ العدولِ، فكيف يسوغُ لهم الاحتجاجُ بمثلِ هذا من الحديثِ لو عَقِلُوا أو أَنْصَفُوا؟)([5]).
وقد تنبه بعضُ علماء الحنفية إلى هذا الذي يلزم من استدل بهذه الحجج المتشابهات من التناقض؛ فمنع من التوسل بالذوات بهذه الحجة كما تقدم، وهذا هو اللازم لكل من يريد أن لا يتناقض في قواعده التي أَصَّلَها وقرَّرَها بنفسه، فعليه أن يلتزم بها سواء كانت له أو عليه.
إن النصوص التي استدلوا بها إما نصوصٌ صحيحةٌ ولكنها غير صريحة، وإما نصوصٌ صريحةٌ ولكنها ضعيفة أو موضوعة مكذوبة، وليس لديهم دليلٌ صحيحٌ ثابتٌ صريحٌ.
ففي الأدلة الصحيحة نطالبهم بدلالتها الصريحة على مرادهم؛ ولن يجدوا إلى ذلك سبيلًا، وفي الأدلة غير الصحيحة نطالبهم بإثبات صحتها، فإذا لم يثبتوا صحتها وثبوتها يسقط احتجاجُهم بها ولا يلتفت إليه.
إننا لو سلمنا دلالةَ تلك الأدلة التي ساقوها على ما احتجوا به دلالةً صريحةً؛ تكون تلك الأدلة معارضة للأدلة الأخرى الدالة على المنع، أليس الواجب في هذه الحالة الجمعُ إن أمكن، ثم الترجيحُ؟؟
فإذا اخترنا الجمعَ وذهبنا إليه؛ فإننا نجدُ أن تلك الأدلة التي احتجوا بها - الصحيح منها - يدل على ما يوافق الأدلة المانعة من الدعاء غير المشروع، كما ستأتي الإشارة إلى ذلك عند المناقشة التفصيلية.
وإذا لم يمكن الجمع نذهب إلى الترجيح، وقد أشرنا أن الأدلة الدالة على المنع من الدعاء غير المشروع أقوى ثبوتًا ودلالةً لأنها قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، وأما الأدلة التي احتجوا بها فهي ما بين صريح غير صحيح الدلالة وما بين ضعيف أو مكذوب صريح الدلالة.
الهوامش:
([1]) انظر عن هذا الجواب: الاعتصام، الشاطبي، (1/220-226)، والنبذة الشريفة، ضمن الرسائل النجدية، (4/619)، وكشف الشبهات، محمد بن عبد الوهاب، ص(160).
([2]) مدارج السالكين، ابن القيم، (3/450)، وشرح الطحاوية، ص(38)، وتيسير العزيز، سليمان بن عبد الله، ص(38-39)، وفتح المجيد، عبد الرحمن آل الشيخ، ص(15).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.