الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ كانَ صلى الله عليه وسلم يمتازُ بكمالِ خُلُقِه وجمالِ خِلْقَتِه بما لا يحيطُ بوصفِه البيانُ، ففاضتِ القلوبُ بإجلالِه وتفانى الرجالُ في إكبارِه.
- خِلْقَته صلى الله عليه وسلم:
كان صلى الله عليه وسلم جميلًا وضّاءَ الوجهِ، طَلْقَ المُحَيَّا كالقمرِ ليلةَ البدرِ، عذبَ المنطقِ، حلوَ المَبْسَمِ، أزهرَ أكحلَ، مهابًا، عليهِ جلالُ الرسالةِ، وهيبةُ النبوةِ.
وصفَهُ المقربونَ منْ صحبِه كزوجاتِه وبعضِ أهلِه وخدمِه رضوانُ الله عليهم أجمعينَ، فقلَّما ذكرَ غيرُهم وصفًا لجبلتِه؛ لمَّا استنارتْ قلوبُهم بهديه، فأذهلَ سناءَ عيونِهم عن نعتِه عليه أفضلُ الصلاةِ وأزكى السلامِ.
عن البراءِ بن عازبٍ رضي الله عنه قال: (كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناسِ وجهًا وأحسنَه خَلْقًا، ليسَ بالطويلِ البائنِ ولا بالقصيرِ)([1]).
وعنه رضي الله عنه، قال: (كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مربوعًا بعيدًا ما بين المنكبين، له شعرٌ يبلغُ شحمةَ أذنِه، رأيتُه في حلةٍ حمراءَ لم أر شيئًا قطُّ أحسنَ منهُ)([2]).
وسئل البراء أكان وجهُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلَ السيف؟
وعنْ كعبِ بن مالكٍ قال: (كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ إذا سُرَّ استنارَ وجههُ حتى كأنه قطعةَ قمرٍ)([4]).
وكان صلى الله عليه وسلم كما وصفته (أم معبد) رجلًا ظاهرَ الوضاءةِ، أَبْلَجَ الوجهِ [مشرقُ الوجهِ وضيءٌ]، حسنَ الخلق، لم يعبْهُ نحولُ الجسمِ، وسيمٌ قسيمٌ [حسن وضيء]، في عينيهِ [سواد]، طويل شعرِ الرموشِ، وفي صوتِه [بحة وحسن]، وفي عنقه [طول]، وفي لحيته كثاثة، [حاجباه طويلان ومقوسان ومتصلان].
إن صمتَ فعليه الوقارُ، وإن تكلمَ عَلَاهُ البهاءُ، أجملُ الناس وأبهاهم من بعيدٍ، وأحسنُهم وأجملُهم من قريبٍ، حلوُ المنطقِ، فصلًا لا نَزَرَ ولا هَذَرَ [كلامه بَيِّنٌ وسطٌ ليس بالقليل ولا بالكثير]، كأن مَنطِقَه خرازاتِ نظمٍ يتحدرن، رَبْعَةٌ لا يَأْسَ مِنْ طُولٍ، وَلا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ [ليس بالطويل البائن ولا بالقصير]، غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ، فَهُوَ أَنْضَرُ الثَّلاثَةِ مَنْظَرًا، وَأَحْسَنُهُمْ قَدْرًا، لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفُّونَ بِهِ، إنْ قَالَ: أَنْصَتُوا لِقَوْلِهِ، وَإِنْ أَمَرَ تَبَادَرُوا لأَمْرِهِ، مَحْشُودٌ مَحْفُودٌ [عنده جماعة من أصحابه يطيعونه]، لا عَابِسٌ وَلا مُفَنَّدٌ [غير عابس الوجه وكلامه خال من الخرافة].
لما سمع أبو معبد قولها قال: هذا والله صاحبُ قريشٍ الذي ذُكِرَ لنا من أمرهِ ما ذُكر، ولقد هَمَمْتُ أنْ أَصْحَبَهُ، ولأفعلنَّ إن وجدتُ إلى ذلك سبيلًا، وأصبحَ صوتُه بمكةَ عاليًا، يسمعونَ الصوتَ ولا يدرونَ من صاحبُه وهو يقول:
جَزَى اللَّهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ رَفِيقَيْنِ حلَّا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ
وقد وصفه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال:
إِذا مشى تقلَّع كأنما يمشي في صَبَبٍ [يمشي بقوة وسرعة]، وإِذا التفتَ التفتَ معًا، بين كتفيْه خَاتِمُ النبوةِ - وهو خاتِمُ النبيينَ - أجودُ الناسِ كفًّا، وأجرأُ الناسِ صدرًا، وأصدقُ الناسِ لهجةً، وأوفى الناس ذمةً. [ألينُهم خلقًا وأسلمُهم]، وأكرمُهم عِشْرة، من رآه [مفاجأة] هابَهُ، ومن خالَطَه معرفةً أحبَّه، يقول ناعِتُهُ: لم أَر قبلَه ولا بعدَه مِثْلَهُ صلى الله عليه وسلم([6]).
- خُلُقه صلى الله عليه وسلم:
وكان صلى الله عليه وسلم مع جمالِ خِلْقَتِه جميلًا في أخلاقِه، وهو القائلُ: (إنما بعثتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاقِ) ([7]).
كان صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناسِ خُلُقًا وأكرمُهم وأتقاهمْ، وقدْ شهدَ لهُ بذلكَ ربُّه جلَّ وعلا وكفي بها فضلًا، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وتقول زوجُه صفيةُ بنت حيي رضي الله عنها: (ما رأيتُ أحسنَ خُلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم) ([9]).
وكان صلى الله عليه وسلم أفضلَ قومِه مروءةً، وأحسنَهم خلقًا، وأعزَّهم جوارًا، وأعظمَهم حِلمًا، وأصدقَهم حديثًا، وأعفَّهم لسانًا، وأكرمَهم يدًا، وأبرَّهم عملًا، وأوفاهم عهدًا، وآمَنَهم أمانةً، حتى سماه قومُه (الأمينَ) لما جمعَ فيه من الخصالِ الصالحة.
كان سيدَ المتواضعين، فكان يكره المدحَ وينهى عن إطرائِه ويقولُ: (لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابنَ مريمَ، فإنما أنا عبدُه؛ فقولوا عبدُ اللهِ ورسولِه) ([10]).
وكان لا يأنفُ أن يمشيَ مع الأرملةِ والمسكينَ فيقضي له الحاجةَ([11]).
كان حَيِيًّا، بلغَ حياؤُه الذروةَ العليا والقمةَ السامقةَ، يدركه المرءُ لأولِ وهلةٍ، ويظهرَ في وجهِهِ الشريفِ صلى الله عليه وسلم، يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً من العذراءِ في خدرِها [ستر يجعل للبكر في جانب البيت]، وكانَ إذا كره شيئًا عرفنَاه في وجهِهِ)([12]).
كان رحيمًا، بلغت رحمتُه مداها، وهو الذي قال الله فيه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، شملت رحمتُه الضعفاءَ والمساكينَ، والأطفالَ والصبيانَ، بل وشملت الحيوانَ، فهو القائل: (اتَّقُوا اللهَ فِي هذه البهائمِ المُعْجَمَةِ؛ فَاركَبوها صَالِحة، وَكُلُوهَا صالحة) ([13])، بل وشملت الجمادَ أيضًا فهو الذي احتضنَ جذعَ النخلةِ عندما حنَّ لاتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم منبرًا، وقال: (لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ([14]).
وكان صلى الله عليه وسلم أشجعَ الناسِ وأثبتَهم قلبًا، وكان الشجعانُ يتقونَ به إذا اشتدَّ البأسُ، قال البراء: (كنَّا واللهِ إذا احمرَّ البأسُ نتقي به، وإن الشجاعَ منا للذي يحاذي به ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ)([15])، وقال ابن عمر: (ما رأيت أحدًا أنجدَ [أسرع في النجدة]، ولا أجودَ، ولا أشجعَ، ولا أضوأَ وأوضأَ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)([16]).
كما تميز صلى الله عليه وسلم بفصاحةِ اللسانِ، وبلاغةِ القولِ، وسلاسةِ الطبعِ، وجزالةِ الكلامِ وصحةِ المعاني، وقلةِ التكلفِ، وأوتي جوامعَ الكلم.
نقيَّ النفسَ والروحَ، يعفو عند المقدرةِ، ويصبرُ على المكاره، يزدادُ صبرًا مع كثرةِ الأذى، ويزدادُ حِلمًا على إسرافِ الجاهلِ.
كان عادلًا، عفيفًا، كريمًا، صادقًا، وكان أبعدَ الناسِ غضبًا مالم تُنتهك محارمُ الله، يفي بالعهودِ ويصلُ الرحمَ.
كان أحسنَ الناسِ عشرةً وأدبًا، وأبسطَهم وأبعدَهم عن سيئِ الأخلاقِ، لا يجزي السيئةَ بالسيئةِ ولكن يعفو ويصفحُ، ولا يدعُ أحدًا يمشي خلفَه، ولا يترفعُ على عبيدِه وإمائِه في مأكلٍ أو ملبسٍ، ويخدمُ من خدمَه ولم يقلْ لخادمِه أفٍ قط، ولم يعاتبْه على فعلِ شيءٍ أو ترْكِه.
يحبُ المساكينَ ويجالسُهم ويشهدُ جنائزَهم، ولا يحقر فقيرًا لفقره، لا يذمُّ ولا ينمُّ ولا يغتابُ، ولا يتحدثُ إلا بما فيه ثوابٌ.
كان دائمَ البشرِ، سهلَ الخُلقِ لينَ الجانبِ، ليس بفظٍ ولا غليظٍ، ولا صخَّابٍ ولا فحَّاشٍ ولا عتَّابٍ ولا مداحٍ، يتغافلُ عما لا يشتهي.
إذا تكلم أطرقَ جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطيرُ، وإذا سكتَ تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديثَ، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغَ، حديثهم حديثَ أولهِم، يضحكُ مما يضحكونَ منه، ويعجبُ مما يعجبونَ منه، ويصبر للغريبِ على الجفوةِ في المنطقِ، ويقول: (إذا رأيتم صاحبَ الحاجة فأرفدُوه).
مرَّتِ الإنسانيةُ بفترة طويلة بعد رفع عيسى إلى السماءِ، وانطفأ نورُ رسالته شيئًا فشيئًا حتى عمَّ الظلامُ أرجاءَ الكونِ، وبات الناسُ يتخبَّطون في غَيَابات الجهلِ، تهوِي بهم ريحُ الظلمِ في وادٍ سحيقٍ، ولم يَبْقَ في ساحات العالم وطرقاته إلا طيفُ قناديل واجمةٍ لبقايا أهلِ الكتابِ هرعوا بها إلى رؤوسِ الجبالِ. في ذلك التاريخِ المخيفِ، وليله الثقيلِ، والأرضُ تحيط بجِيدِها أيادي الموت، بَزَغَ نور الفجر، وتراجع الليلُ يجرُّ أذيالَ الهزيمةِ، فقُطعت أيادي الظلمِ، وتساقطت الشرفاتُ الزائفةُ، وكُسِرَ إيوانُ القهر، وأُطفئت نيران العبوديةِ، ببعثته صلى الله عليه وسلم.
أرسله الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعةِ بشيرا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا فختمَ به الرسالةَ؛ وهدى به من الضلالةِ؛ وعلم به من الجهالةِ وفتح برسالته أعينًا عميًا وآذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا، فأشرقت برسالتِه الأرضُ بعد ظلماتها؛ وتألفتْ بها القلوبُ بعد شتاتِها فأقامَ بها الملةَ العوجاءَ وأوضح بها المحجةَ البيضاءَ وشرح له صدره؛ ووضع عنه وزره؛ ورفع ذكره؛ وجعلَ الذلةَ والصغارَ على من خالفَ أمرِه أرسلَهُ على حين فترة من الرسلِ ودروسٍ من الكتبِ حين حُرفَ الكلمُ وبُدلتِ الشرائعُ، واستند كل قوم إلى أظلمِ آرائِهم وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتِهم الفاسدةِ وأهوائِهم، فهدى الله به الخلائقَ وأوضحَ به الطريقَ وأخرجَ به الناسَ من الظلمات إلى النورِ؛ وأبصرَ به من العمى؛ وأرشدَ به من الغي وجعله قسيم الجنة والنار، وفرق ما بين الأبرار والفجار؛ وجعل الهدى والفلاح في اتباعه وموافقته([17]).
صحيحٌ ما رأيتُ النورَ من وجهِكْ
ولا يومًا سمعتُ العذبَ من صوتِكْ
ولا يومًا حملتُ السيفَ في رَكبِكْ
ولا يومًا تطايرَ من هنا غضبي
كجمرِ النارْ
ولا حاربتُ في أُحُدٍ، ولا قَتَّلتُ في بدرٍ .. صناديدًا من الكفَّارْ
وما هاجرتُ في يومٍ ولا كنتُ .. من الأنصارْ
ولا يومًا حملتُ الزادَ والتقوى لبابِ الغارْ
ولكنْ يا نبيَّ اللهْ .. أنا واللهِ أحببتُكْ
لهيبُ الحبِّ في قلبي .. كما الإعصارْ
almagdy3@gmail.com
الهوامش
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.