الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي
إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فقد كانَ صلى الله عليه وسلم حريصًا أشدَّ الحرصِ على رفعِ الحرجِ والمشقةِ عنهم، وألا يكلفوا أنفسَهم فوق طاقتهم، ويقول لهم: (خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا)([1]).
وسأل عمرُ بنُ أبي سلمةَ رضي الله عنهما النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (سَلْ هَذِهِ) لأُمِّ سَلَمَةَ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ)([2]).
وكان صلى الله عليه وسلم يؤدبُ من خشي عليهِ التنطعَ، وهذا أسلوبٌ للتربيةِ لا غنى للمربي الحكيمِ عنه أحيانًا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: نَهى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ فِي الصَّوْمِ، فَقَالَ لَهُ رَجلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: وَأَيُّكُمْ مِثْلِي إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقَينِ، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ؛ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلاَلَ فَقَالَ: لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ، كَالتَّنْكِيلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا([3]).
وفي حديثِ أنس رضي الله عنه قال: (... فَأَخَذَ يُوَاصِلُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَاكَ فِى آخِرِ الشَّهْرِ، فَأَخَذَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُوَاصِلُونَ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: (مَا بَالُ رِجَالٍ يُواصِلُونَ! إِنَّكُمْ لَسْتُمْ مِثْلِي، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ تَمَادَّ لِىَ الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالاً يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ)([4]).
وكانَ صلى الله عليه وسلم يصبُّ الماءَ على رأسِه عند اشتدادِ الحرِّ وهو صائمٌ، فعن أبي بكر بن عبد الرحمن عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُئِيَ بِالْعَرْجِ وَهُوَ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ وَهُوَ صَائِمٌ مِنْ الْحَرِّ أَوْ الْعَطَشِ([5]).
وهذا من الرفقِ بالجسدِ، والتيسيرِ على النفسِ، وبثِّ النشاطِ فيها لتتمكنَ من مزيدِ طاعةٍ، إذ مقصودُ الصيامِ الأعظمِ امتثالُ الأمرِ وتقديمُ الخضوعِ له تعالى على محبوباتِ النفسِ وملذاتها، لا تعذيبَ الجسدِ وإيذائِه والقسوةِ عليه.
ويلحقُ بصبِّ الماءِ على الرأسِ عمومَ الاغتسالِ، وبلَّ الثوبِ، والانتقاعَ في الماء، كما أورد ذلك البخاري في صحيحه، في باب: اغتسالُ الصائمِ عن بعض الصحابة والتابعين ـ الذين كانوا آية في الحرصِ على التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم ـ، فقال: (وبلَّ ابن عمر رضي الله عنهما ثوبًا فألقاه عليهِ وهو صائمٌ ودخلَ الشعبي الحمامَ وهو صائمٌ، .. وقال الحسنُ: لا بأسَ بالمضمضةِ والتبردِ للصائمِ، وقال ابن مسعود: إذا كان صومُ أحدِكم فليصبحْ دهينًا مترجلًا، وقال أنس: إن لي أَبْزَن أتقحمُ فيه [الأبزن: حجرٌ منقورٌ يشبه الحوضَ، وهي كلمةٌ فارسيةٌ، وأتَقَحَّمُ فيه، أي: أدخل] وأنا صائمٌ)([6]).
ويلتحقُ بذلك في أيامِنا البقاءُ حولَ أجهزةِ التبريد.
وبصورةٍ عامةٍ فكلُّ ما يخففُ العبادةَ على الشخصِ، ويمكِّنُه منْ أدائِها وهو نشيطٌ مطمئنٌ مقبلٌ على ربِّه عز وجل أمرٌ مطلوبٌ، وكلُّ مشقةٍ يمكن الانفكاكُ عنها مع أداءِ العبادةِ على وجهِها فليست من مقصوداتِ الشارعِ، بل التخلي عنها من مطلوباتِه، أما المشقةُ التي لا تنفك عنها العبادةُ فهي التي تزيدُ في الأجرِ، كالوضوءِ في الشتاءِ، والسفرِ للحجِّ، والمشي إلى صلاةِ الجماعةِ في شدةِ الحرِّ أو البردِ.
وفي ذلكَ يقول ابنُ تيمية: (ومما ينبغي أن يعرفَ أن الله ليسَ رضاه أو محبتُه في مجردِ عذابِ النفسِ وحملِها على المشاقِّ، حتى يكونَ العملُ كلما كانَ أشقُّ كانَ أفضل، كما يحسبُ كثيرٌ من الجهالِ أن الأجرَ على قدرِ المشقةِ في كلِّ شيءٍ، لا! ولكنَّ الأجرُ على قدرِ منفعةِ العملِ ومصلحتِه وفائدتِه، وعلى قدرِ طاعةِ أمرِ الله ورسولِه، فأيُّ العملينِ كانَ أحسنُ، وصاحبُه أطوعُ وأتبعُ كان أفضلُ؛ فإنَّ الأعمالَ لا تتفاضلُ بالكثرةِ، وإنما تتفاضلُ بما يحصلُ في القلوبِ حالَ العملِ)([7])، والله أعلم.
وقد قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
(وهذه هي القاعدةُ الكبرى في تكاليفِ هذه العقيدةِ كلها . فهي ميسرةٌ لا عسرَ فيها . وهي توحي للقلبِ الذي يتذوقُها بالسهولةِ واليسرِ في أخذِ الحياةِ كلِّها؛ وتطبعُ نفسَ المسلمِ بطابعٍ خاصٍّ من السماحةِ التي لا تكلفَ فيها ولا تعقيد.
سماحةٌ تؤدَّى معها كلُّ التكاليفِ وكلُّ الفرائضِ وكلُّ نشاطِ الحياةِ الجادةِ وكأنما هي مسيلُ الماء الجاري، ونمو الشجرةِ الصاعدةِ في طمأنينةٍ وثقةٍ ورضاءٍ، معَ الشعورِ الدائمِ برحمةِ اللهِ وإرادتِه اليسرَ لا العسرَ بعبادِه المؤمنين)([8]).
والبعضُ لا يفقهُ هذه القاعدة فيلجأُ للتشددِ، وقد عالجَ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر عند الثلاثةِ الذين جاؤوا يسألونَ عن عبادتِه، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؛ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا؛ وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ؛ وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا.
فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؛ أَمَا وَاللهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ للهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)([9]).
فهؤلاءِ الثلاثةُ أرادوا الاجتهادَ في العبادةِ غير أنهم أخطأوا الطريقَ فاتجهوا لإلزامِ أنفسِهم بما لم يلزمْهم به اللهُ ورسولُه.
فالشريعةُ واسعةٌ، وأفضلُ الأمرِ أيسرُه، والتشديدُ على النفسِ أو الآخرينَ في هذا البابِ خلافُ الهديِ الثابتِ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إن شريعةَ الإسلامِ شريعةُ اليسرِ والسهولةِ (وَلَنْ يُشَادَّ الدِّيْنُ إلاَّ غَلَبَهُ)([10])، ولطالما تواردت النصوصُ على هذا الأصلِ: أصلُ التيسيرِ ورفعُ الحرجِ، واعتمادُ الرفقِ وتركُ التكلفِ.
وهذه خاصيةُ الدينِ الرباني المراعي لواقعِ الناسِ وأحوالهم، الملائمِ للفطرة، والذي أرادَ اللهُ تعالى له البقاءَ حتى تقومَ الساعة، فالحمد لله على نعمة الإسلام.
وتنكيلُه صلى الله عليه وسلم بمن أرادوا الوصالَ، وتبردُه في حرِّ رمضانَ وغيرها ينسجمُ مع ذلك الأصل؛ إذ يخشى صلى الله عليه وسلم عليهم العنتَ والمشقةَ، لكن لما كانتْ بعضُ النفوسِ لا يكفيها الكلامُ احتاجَ صلى الله عليه وسلم إلى العقوبةِ، ولم تكنْ تلك العقوبةُ على أمرٍ محرمٍ، فلو كانَ محرمًا ما فعلوه ولما أقرّهم عليه، بل زادَهم من جنس ما رغبوا فيه، حتى يدركوا الفرقَ بينهم وبينَه صلى الله عليه وسلم، وهو النبيُّ الموصولُ من ربه تعالى بألطافٍ ومعانٍ قلَّ من يدركها.
ولا يقصدُ بالوسطيةِ التهاونُ في أوامرِ اللهِ أو الوقوعِ في المحرماتِ، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم كانَ يتخيرُ الأيسرَ لأمتِه ما لم يكن حرامًا، ومع ذلك كان يغضبُ إذا انتُهكت محارمُ الله، فعن عَائِشَة، أَنَّهَا قَالَتْ: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ، إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ فَيَنْتَقِمَ للهِ بِهَا)([11]).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.