الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي
إن الحمد لله وصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فقد كانَ صلى الله عليه وسلم متواضعًا دائمًا زاهدًا في الدنيا، وهي من سماتِ من رقيت نفسُه وعرف عظمةَ معبودِه حقَّ المعرفة وشدةَ ضَعْفِ نفسه، فكانت تلك المعرفةُ والخشيةُ سببًا لتواضع القلبِ للشرعِ والخلقِ، ولقوة التعظيمِ لله تعالى ونماءِ الصلة به، وللزهدِ في الدنيا والتعلقِ بحياة الآخرة.
وقد برز زهدُه صلى الله عليه وسلم في رمضانَ في أمورٍ كثيرة، منها صلاتُه صلى الله عليه وسلم بالليلِ على حصيرٍ، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ فِى الْمَسْجِدِ فِى رَمَضَانَ أَوْزَاعًا فَأَمَرَنِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَضَرَبْتُ لَهُ حَصِيرًا فَصَلَّى عَلَيْهِ)([1]).
وكان معتكفه صلى الله عليه وسلم متواضعًا، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (اعتكف رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في العشرِ الأواخرِ، فبُنيَ له بيتٌ مِنْ سَعَفٍ...)([2]) والسعف: أغصان النخلة إذا يبست.
وكان فطورُه وسحورُه صلى الله عليه وسلم متواضعًا، وهذا ما ذكره خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: (كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يفطر قبل أن يصليَ على رطباتٍ، فإن لم تكن رطباتٌ فتُميراتٌ، فإن لم تكن تُميراتٌ، حسا حسَواتٍ من ماءٍ)([3]).
ولم يكن سحوره بأعظمَ من ذلك، قال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وذلك عند السحورِ ـ: يا أنَسُ إنِّي أريدُ الصِّيامَ، أطعِمني شيئًا، فأتيتُه بتمرٍ وإناءٍ فيهِ ماءٌ، وذلِك بعدما أذَّنَ بلالٌ)([4]).
ولم يكن هذا حالُه في رمضانَ فقط، بل كان التواضعُ والزهدُ من أخلاقِه الثابة في كل وقت وحين صلى الله عليه وسلم، فقد كان يتخلقُ ويتمثل بقوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
وكان صلى الله عليه وسلم متواضعًا في ذاتِه الشريفة، فلا يحب المدحَ، وينهى عن إطرائه ويقول: (لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ ، وَلَكِنْ قُولُوا : عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)([5]).
وجاءه رجلٌ يومًا فقال له: يا سيدَنا وابنَ سيدِنا، ويا خيرَنا وابنَ خيرِنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس، قولوا بقولِكم ولا يستهويَنَّكم الشَّيطانُ، أنا محمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ, عبدُ اللهِ ورسولُه، واللهِ ما أحبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي الَّتي أنزلني اللهُ عزَّ وجلَّ) ([6])، ويستهوينكم الشيطان أي يدفعكم إلى اتباع الهوى.
وجاءه رجل فقال يا خير البرية، فقال: (ذلكَ إبراهيمُ عليهِ السلام)([7])، قال النووي: (قال العلماء: إنما قال صلى الله عليه وسلم هذا تواضعًا واحترامًا لإبراهيم عليه السلام لخُلَّتِه وأبوَّتِه، وإلا فنبينا صلى الله عليه وسلم أفضل، كما قال صلى الله عليه وسلم (أنا سيدُ ولدِ آدم) ولم يقصدْ به الافتخارَ ولا التطاولَ على من تقدمه، بل قاله بيانًا لما أمر ببيانِه وتبليغِه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ولا فخر)؛ لنفي ما قد يتطرقُ إلى بعضِ الأفهامِ السخيفة ...) ([8]).
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (آكلُ كما يأكلُ العبدُ وأجلسُ كما يجلسُ العبدُ)([9]).
وكان صلى الله عليه وسلم متواضعًا مع أصحابِه، يقول عثمان بن عفان رضي الله عنه: (إنا واللهِ، قدْ صحبْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في السفرِ والحضرِ، وكان يعودُ مرضانا، ويَتْبَعُ جنائزَنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليلِ والكثيرِ) ([10]).
وكان صلى الله عليه وسلم لا يأنفُ أن يمشيَ مع الأرملةِ والمسكينِ فيقضي له الحاجةَ([11]).
وكان صلى الله عليه وسلم متواضعًا في بيتِه، فقد سُئلت عائشة رضي الله عنها: ما كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يصنعُ في بيتِه؟ قالت: (كانَ يكونُ في مهنةِ أهلِه؛ تعني خدمةَ أهلِه، فإذا حضرتِ الصلاةُ خرجَ إلى الصلاةِ) ([12]).
وكان صلى الله عليه وسلم (يخيطُ ثوبَه، ويَخصِفُ نعلَه، ويعملُ ما يعملُ الرجالُ في بيوتِهم) كما قالت عائشة رضي الله عنها([13]).
أما عن زهدِه صلى الله عليه وسلم فلم يكنْ كأيِّ زهدٍ، وإنما هو زهدُ من لو أراد جبالَ الدنيا أن تكون له ذهبًا وفضة لكانت، زهدُ من عُرِضت عليه الدنيا، وتزينت له، وأقبلت عليه، فقال: (ما لي وللدنيا، إنما مَثَلِي ومَثَلُ الدنيا كمَثَلِ راكب قَالَ في ظل شجرة في يوم صَائِفٍ ثم راح وتركها)([14]) و(قال): من القيلولة: نامَ وسطَ النهار.
فلم يكنْ زهدُه عن عِوَزٍ وحاجةٍ، بل كان زهدًا مختارًا، فإذا جاءه المالُ الكثيرُ من الغنيمةِ أو الفيء؛ أنفقَه كلَّه، ولم يُبقِ لنفسه منه شيئًا، إيثارًا لما عند الله، وزهدًا في الدنيا ومتاعها.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناسُ، إنه لا يحلُّ لي مما أفاء اللهُ عليكم قدرَ هذه ـ وأشار إلى وَبَرَة من جنب بعير ـ إلا الخُمُسُ، والخُمسُ مردودٌ عليكم)([15]) والوبرة: أي شعرةٌ، ومردود عليكم: أي والخمسُ المذكور ـ مع كونه لي ـ فهو مصروفٌ في مصالحكم من السلاحِ والخيرِ وغير ذلك.
وكان صلى الله عليه وسلم ينامُ على الحصيرِ ليس تحته شيء غيره، فيؤثرُ في جنبِه الشريف، حتى بكى عمر رضي الله عنه تأثرًا على حالِ رسول الله صلى الله عليه وسلم([16]).
وكان من زهدِه صلى الله عليه وسلم أن بيتَه ربما كان يخلو من الطعامِ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاءَ رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مَجْهُودٌ، فأرسلَ إلى بعضِ نسائِه، فقالت: والذي بعثك بالحقِّ ما عندي إلا ماء، ثم أرسلَ إلى أخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهنَّ مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحقِّ ما عندي إلا ماء، فقال: من يُضِيفُ هذا الليلةَ رحمه الله؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله...)([17])، و(إني مجهودٌ) أي أصابني الجهدَ وهو المشقةُ والحاجةُ وسوءُ العيش والجوع.
تخلو بيوت النبي صلى الله عليه وسلم كلُّها من كلِّ شيء إلا من الماء!! أي زهد هذا!!
فكيف إذ لم يجدْ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسُه ما يسدُّ به جوعَه، فيخرج من بيته علَّه يجد ما يسدُّ جوعَه؟!
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ أو ليلةٍ، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: (ما أخرجَكما من بيوتِكما هذه الساعة؟) قالا: الجوع يا رسول الله، قال: (وأنا والذي نفسي بيده، لَأَخْرَجَنِي الذي أخرجَكما ...)([18]).
ومن هذا يتبينُ أن الأقربَ إلى هديِهِ صلى الله عليه وسلم هو التواضعُ والزهد (وهو تركُ ما لا ينفعُ في الآخرةِ والتبسطُ وتركُ التكلف والتقللُ من نعيمِ الدنيا حتى لا تنغمس النفسُ في ركامِ الشهواتِ وأوديةِ الملذاتِ فتُرْديها وتقعُ في حبالها فتأسرها.
وبهذا يُدرَك أن الحدَّ الأدنى من الزهدِ واجب، وضابطه: أن لا يقارفَ المرءُ شهوةً محرمةً، وأن لا يلتهي بملذةٍ مباحةٍ عن أداءِ واجبٍ، وما زاد عن ذلكَ من مفارقة الشهواتِ المكروهاتِ أو الملذاتِ المباحاتِ التي تُسربلُ المرءَ في أثوابِ الغفلةِ وتحولُ بينه وبين المستحباتِ ـ ففضلٌ ومزيد يقظة.
وليس المرادُ أن نُعرضَ عن الملذاتِ مطلقًا، فإن تلك رهبانيةٌ مبتدعةٌ، نفاها الله ـ تعالى ـ عن هذا الدينِ، بل المرادُ أن نقتفي أثرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وصحابتِه الكرام، والذي يجدُ من تأملَ في سيرِهِم أن حياتَهم كانت بحسب الحالِ، بحيث لا يمتنعونَ عن موجودٍ من غير سرفٍ ولا مخيلةٍ، ولا يتكلفونَ حَوْزَ مفقودٍ، فنسأل ربنا الرحمن أن يهديَنا طريقَهم ويوفقَنا لاتباعِهم، بمنِّه وإحسانه عز وجل.
فتحصيلُ المالِ بذلك الضابطِ غيرِ مذموم، لكن لابد أن يرافقَ العبدَ أثناء ذلك التحصيلِ تواضعُ القلبِ لله تعالى وإخباتُه له، وإقبالُه عليه، وطمأنينتُه ورضاه به، وتعلقُه بنعيمِ الآخرةِ الباقي، وهذه حقيقة الزهدِ، لا أن نتركَ الإغراقَ في ذلك ظاهرًا، والقلوبُ شغوفةٌ به متطلعةٌ إليه مشغولةٌ بالتفكير في كيفية الظفرِ به وتحصيله، إذ تلك عبودية الدنيا كعبوديةِ الدرهم والدينار، لكنها جمعت مع حرصِ القلبِ بخلَ اليدِ، مهما أكثر العبد فيها من التحلي بمظاهر التواضعِ والورعِ واكتساءِ أرديةِ الزهد، نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
الهوامش
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.