الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي
إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد، فقد حدثَ في مثلِ هذا اليوم من السنة الثامنةِ من الهجرةِ النبوية، دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكةَ دخولَ الخاشعِ المتواضعِ، لا دخولَ الفاتحِ المتعالِ؛ وعليه عمامةٌ سوداءُ بغيرِ إحرام, وهو واضعٌ رأسَه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمَه الله به من الفتحِ، حتى إن ذقنَه ليكادُ يمسُّ واسطةَ الرحل، ودخل وهو يقرأ سورةَ الفتح([1]) مستشعرًا بنعمةِ الفتحِ وغفرانِ الذنوبِ، وإفاضةِ النصرِ العزيز([2]).
وعندما دخلَ مكةَ فاتحًا رفع كلَّ شعار من شعائرِ العدلِ والمساواةِ، والتواضعِ والخضوعِ، فأردف أسامة بن زيد([3]) -وهو ابن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- ولم يردفْ أحدًا من أبناء بني هاشم وأبناءِ أشرافِ قريش وهمْ كثير، وكان ذلك صبحَ يومِ الجمعة لعشرين ليلةٍ خلتْ من رمضانَ، سنة ثمانٍ من الهجرة([4]).
(إن هذا الفتح المبين ليُذكِّرَه بماضٍ طويلِ الفصولِ: كيف خرجَ مطاردًا؟ وكيف يعودُ اليومَ منصورًا مؤيدًا؟ وأيُّ كرامةٍ عظمى حفَّه الله بها هذا الصباحَ الميمونَ؟ وكلما استشعر هذه النعماءَ ازداد لله على راحلته خشوعًا وانحناءً)(.
هذا وقد حرص النبيُ صلى الله عليه وسلم على تأمينِ الجبهةِ الداخليةِ في مكةَ عند دخولِه يوم الفتح؛ ولذلك عندما بلغته مقولةَ سعد بن عبادة لأبي سفيان: اليومَ يومُ الملحمة، اليومَ نستحلُّ الكعبةَ, قال صلى الله عليه وسلم: (هذا يومٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فيه الكَعْبَةَ، ويَوْمٌ تُكْسَى فيه الكَعْبَةُ)([6])، وأخذ الرايةَ من سعدُ بن عبادة وسلَّمَها لابنه قيس بن سعد؛ وبهذا التصرف الحكيم حالَ دونَ أي احتمالٍ لمعركةٍ جانبيةٍ هُمْ في غنى عنها، وفي نفسِ الوقت لم يثرْه, ولا أثارَ الأنصاري، فهو لم يأخذ الراية من أنصاري ويسلمها لمهاجر، بل أخذها من أنصاري وسلمها لابنه، ومن طبيعة البشر ألا يرضى الإنسانُ بأن يكون أحدٌ أفضلَ منه إلا ابنه([7]).
ولما نزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمكةَ واطمأنَّ الناسُ خرجَ حتى جاءَ البيتَ فطافَ به، وفي يده قوسٌ، وحول البيتِ وعليه ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بالقوسِ، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49] والأصنامُ تتساقطُ على وجوهِها([8]).
وإنه لمظهرٌ رائعٌ لنصرِ الله وعظيمِ تأييده لرسولِه، إذ كان يطعنُ تلك الآلهة الزائفةِ المنثورةِ حولَ الكعبة بعصا معه، فما يكادُ يطعنُ الواحدَ منها بعصاه حتى ينكفئَ على وجهِهِ أو ينقلبَ على ظهرهِ جذاذًا, ورأىَ في الكعبةِ الصورَ والتماثيلَ فأمرَ بالصورِ وبالتماثيلِ فكسرتْ([9]) وأبى أن يدخلَ جوفَ الكعبةِ حتى أُخرجت الصورُ، وكان فيها صورةٌ يزعمونَ أنها صورةَ إبراهيمَ وإسماعيلَ وفي يديهما من الأزلامِ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قاتلهم اللهُ؛ لقدْ علموا ما اسْتَقْسَما بها قطُّ) ([10]).
ثم دخلَ البيتَ وكبَّر في نواحيه ثم صلى, فقد روى ابن عمر أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دخلَ الكعبةَ هو وأسامةُ وبلالٌ وعثمانُ بن طلحة، فأغلقها عليهِ ثمَّ مكثَ فيها, قال ابن عمر: فسألتُ بلالًا حين خرج: ما صنعَ رسولُ الله؟ قال: جعلَ عمودين عن يسارِه وعمودًا عن يمينه وثلاثةَ أعمدة وراءه -وكان البيت يومئذ على ستةِ أعمدة- ثم صلى([11]).
وكان مفتاح الكعبة مع عثمانِ بن طلحةَ، قبل أن يُسلمَ، فأرادَ عليٌّ رضي الله عنه أن يكونَ المفتاحُ له مع السقايةِ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم دفعَهُ إلى عثمانَ بعد أن خرجَ من الكعبةِ وردَّه إليه قائلًا: اليومُ يومُ برِّ ووفاء([12])، وكان صلى الله عليه وسلم قد طلبَ من عثمانَ بن طلحة المفتاحَ قبل أن يهاجرَ إلى المدينة، فأغلظَ له القولَ ونالَ منه، فحلم عنه, وقال: (يا عثمانُ، لعلكَ تَرى هذا المفتاحَ يومًا بيدي, أضعُه حيثُ شئتَ) فقال: لقد هلكتْ قريشٌ يومئذٍ وذلتْ، فقال: (بل عَمُرَت وعزَّتْ يومئذ)، ووقعتْ كلمتُه من عثمانَ بن طلحة موقعًا، وظنَّ أن الأمرَ سيصيرُ إلى ما قالَ.
ولقد أعطى له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مفاتيحَ الكعبةِ قائلًا له: (هاكَ مفتاحكَ يا عثمانُ, اليومُ يومُ برٍ ووفاءٍ، خذُوها خالدةً تالدةً لا ينزعُها منكم إلا ظالمٌ) وهكذا لم يشأْ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يستبدَّ بمفتايحَ الكعبة، بلْ لم يشأْ أن يضعَه في أحدٍ من بني هاشم، وقد تطاولَ لأخذِه رجالٌ منهم، لما في ذلك من الإثارةِ، ولما به من مظاهرِ السيطرةِ وبسطِ النفوذِ، وليستْ هذه من مهامِ النبوةِ بإطلاقٍ، هذا مفهومُ الفتحِ الأعظمِ في شرعةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: البرُّ والوفاءُ حتى للذين غدروا ومكروا، وتطاولوا.
هذا, وقد أمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بلالًا أن يصعدَ فوقَ ظهرِ الكعبةِ فيؤذنُ للصلاةِ, فصعدَ بلالٌ وأذنَ للصلاةِ، وأنصتَ أهلُ مكةَ للنداءِ الجديدِ على آذانهمْ كأنهم في حلمٍ، إنَّ هذه الكلماتِ تقصفُ في الجوِّ فتقذفُ بالرعبِ في أفئدةِ الشياطينِ؛ فلا يملكونَ أمامَ دويِّها إلا أن يولوا هاربينَ، أو يعودوا مؤمنينَ.
الله أكبر، الله أكبر.
ذلكَ الصوتُ الذي كان يهمسُ يومًا ما تحتَ أسواطِ العذابِ: أَحَدٌ، أَحَدٌ؛ ها هو اليومَ يجلجلُ فوقَ كعبةِ الله تعالى قائلًا: لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله، والكلُّ خاشعٌ منصتٌ خاضعٌ.
وبعدَ كلِّ هذا يعلن النبيُّ الأمينُ صلى الله عليه وسلم، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]؛ لأهل مكة عفوًا عامًّا رغمَ أنواعِ الأذى التي ألحقُوها به صلى الله عليه وسلم وبدعوتِه، ورغمَ قدرةِ الجيشِ الإسلامي على إبادتِهم, وقدْ جاءَ إعلانُ العفوِ عنهم وهم مجتمعونَ قربَ الكعبةِ ينتظرونَ حكمَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فيهمْ, فقال: (ما تَظُنَّونَ أنِّي فاعلٌ بِكُم؟) فقالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ، فقال: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ} [يوسف:92].
وقد ترتبَ على هذا العفوِّ العامِ حفظُ الأنفسِ من القتلِ أو السبيِّ, وإبقاءُ الأموالِ المنقولةِ والأراضي بيد أصحابِها, وعدمُ فرضِ الخراجِ عليها، فلمْ تعاملْ مكةُ كما عوملت المناطقُ الأخرى المفتوحةُ عنوةً؛ لقدسيتها وحرمتها، فإنها دار النسكِ, ومتعبدُ الخلقِ, وحرمُ الربِّ تعالى.
وكان من أثرِ عفوِ النبي صلى الله عليه وسلم الشاملِ عن أهلِ مكةَ، والعفوِ عنْ بعضِ منْ أهدرَ دماءَهم، أنْ دخلَ أهلُ مكةَ -رجالاً ونساءً وأحرارًا وموالي- في دينِ الله طواعيةً واختيارًا، وبدخولِ مكةَ تحتَ رايةِ الإسلامِ دخلَ الناسُ في دين الله أفواجًا، وتمت النعمةُ، ووجب الشكرُ ([13]).
وبايع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الناسُ جميعًا الرجالُ والنساءُ، والكبارُ والصغارُ, وبدأ بمبايعةِ الرجالِ، فقد جلسَ لهم على الصفا، فأخذ عليهم البيعةَ على الإسلامِ والسمعِ والطاعةِ لله ولرسولِه فيما استطاعوا.
وجاء مجاشعُ بن مسعود بأخيه مجالد بعد يومِ الفتحِ فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئتُك بأخي لتبايعَه على الهجرةِ، فقال عليه الصلاة والسلام: (ذهبَ أهلُ الهجرةِ بما فيها) فقال: على أيِّ شيءٍ تبايعُه؟ قال: (أبايعُه على الإسلامِ والإيمانِ والجهاد)([14]).
وقد روى البخاريُّ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال يومَ الفتحِ: (لا هجرةَ بعد الفتحِ ولكنْ جهادٌ ونيةٌ)([15]) وإذا استنفرتم فانفروا.
ولما فرغَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من بيعةِ الرجالِ بايع النساءَ، وفيهنَّ هندُ بنت عتبة متنقبةً متنكرةً، على ألا يشركنَ بالله شيئًا, ولا يسرقنَ، ولا يزنينَ، ولا يقتلنَ أولادهنَّ، ولا يأتينَ ببهتانٍ يفترينه بين أيديهنَّ وأرجلهنَّ، ولا يعصينَ في معروفٍ، ولما قال النبي: (ولا يسرقنَ) قالت هند: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ لا يعطيني ما يكفيني ويكفي بنيَّ فهلْ عليَّ من حرجٍ إذا أخذتُ من ماله بغير علمه؟
فقال لها صلى الله عليه وسلم: (خُذِي منْ مالِه ما يكفيكِ وبنيكِ بالمعروفِ), ولما قال: (ولا يزنينَ) قالت هند: وهل تزني الحرة؟! ولما عرفها رسول الله قال لها: (وإنَّك لهندُ بنت عتبة؟) قالت: نعم، فاعف عما سلفَ عفا الله عنك.
وقد بايعنَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من غيرِ مصافحةٍ، فقد كان لا يصافحُ النساءَ، ولا يمسُّ يدَ امرأةٍ إلا امرأةً أحلَّها الله له أو ذاتَ محرمٍ منه، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (لا واللهِ، ما مستْ يدُ رسولِ الله يدَ امرأةٍ قطُّ) وفي رواية: ما كان يبايعهنَّ إلا كلامًا ويقول: (إنما قولي لامرأةٍ واحدةٍ كقولي لمائةِ امرأة)([16]).
لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكةَ ودخل المسجدَ، أتى أبو بكر بأبيه يقودُه، فلما رآه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: (هلَّا تركتَ الشيخَ في بيتِه حتى أكونَ أنا آتيه فيه؟).
قال أبو بكر: يا رسولَ الله، هو أحقُّ أن يمشيَ إليك من أن تمشي إليه أنت، فأجلسَه بين يديه، ثم مسحَ صدَره، ثم قال له: (أسلمْ) فأسلم، قالت: فدخلَ به أبو بكر وكأنَّ رأسَهُ ثغامةٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غيِّروا هذا من شعرِه)([17]) ويُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هنأَ أبا بكرٍ بإسلامِ أبيه([18]).
وفي هذا الخبر منهجٌ نبويٌّ كريمٌ سنَّه النبي صلى الله عليه وسلم في توقيرِ كبارِ السنِّ واحترامِهم, ويؤكدُ ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ليسَ منَّا منْ لمْ يوقرْ كبيرَنا ويرحمْ صغيرَنا)([19])، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ منْ إجلالِ اللهِ تعالى إكرامُ ذي الشيبةِ المسلمِ)([20])، كما أنَّه صلى الله عليه وسلم سنَّ إكرامَ أقاربِ ذوي البلاءِ والبذلِ والعطاءِ والسبقِ في الإسلام؛ تقديرًا لهم على ما بذلوه من الخدمةِ للإسلامِ والمسلمينَ ونصرِ دعوةِ الله تعالى([21]).
هكذا كانَ فتحُ مكة بمثابةِ انتصارٌ للرسالةِ المحمديةِ فلقدْ دخلتْ مكةُ تحتَ نفوذِ المسلمينَ, وزالتْ دولةَ الكفرِ منها, وحانتْ الفرصةُ للقضاءِ على جيوبِ الشركِ في حنينَ والطائفِ, ومنْ ثَمَّ إلى العالمِ أجمعِ؛ لذلك قال الله عنه في القرآن الكريم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3].
وبعدها أصبحَ المسلمونَ قوى عظمى في جزيرةِ العربِ؛ وتحققت أمنيةُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم بدخولِ قريشٍ في الإسلامِ, وبرزتْ قوةٌ كبرى في الجزيرةِ العربيةِ لا يستطيعُ أيُّ تجمعٍ قبلي الوقوفَ في وجهها، وهي مؤهلةٌ لتوحيدِ العربِ تحتَ رايةِ الإسلامِ ثم الانطلاقِ إلى الأقطارِ المجاورةِ، لإزالةِ حكوماتِ الظلمِ والطغيانِ، وتأمينِ الحريةِ لخلقِ الله لكي يدخلوا في دينِ الله، ويعبدوه وحدَه من دون سواه.
وها هو يتحققُ وعدَ الله بالتمكينِ للمؤمنينَ الصادقينَ بعد ما ضحوا بالغالي والنفيسِ, وحققُّوا شروطَ التمكينِ وأخذوا بأسبابِه, وقطعوا مراحلَه وتعاملوا مع سننِه كسنةِ الابتلاءِ، والتدافعِ، والتدرجِ، وتغيرِ النفوسِ، والأخذِ بالأسبابِ، ولا ننسى تلك الصورةَ الرائعةَ وهي وقوفَ بلالٍ فوقَ الكعبةِ مؤذنًا للصلاةِ بعد أن عُذِّبَ في بطحاءَ مكةَ وهو يردد: «أَحَدٌ أَحَدٌ» في أغلالِه وحديدِه، ها هو اليومَ قد صعدَ فوقَ الكعبةِ، ويرفعُ صوتَه الجميلَ بالأذانِ وهو في نشوةِ الإيمان.
الهوامش
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.