الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي
(فرضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفطرِ من رمضانَ على الناسِ)(). يُودِّع الضيفُ الكريم ويَجْهَزُ بالهدايا والتحفِ والعطايا والطُرَف، أتدرونَ ما تحفةِ ضيفِكم؟ إنها زكاةُ فطرِكم، طهرةُ صومِكم، وزكاةُ نفوسِكم، وصلاحُ أمركِم.
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (فرضَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زكاةَ الفِطْرِ: طُهْرةً للصائم من اللَغْوِ والرَفَثِ، وطُعْمَةً للمساكينِ)().
إن الحكمةَ من تشريعِ زكاة الفطرِ هو تطهيرُ الصائمِ من اللغوِ والرفثِ، وذلك أن الصائمَ في الغالبِ لا يخلو من الخوضِ واللهوِ ولغوِ الكلامِ، وما لا فائدةَ فيه من القولِ، والرفثِ الذي هو الساقطُ من الكلامِ، فيما يتعلق بالعوراتِ ونحو ذلك، فتكونُ هذه الصدقةُ تطهيرًا للصائمِ مما وقعَ فيه منْ هذه الألفاظِ المحرمةِ أو المكروهةِ، التي تنقصُ ثوابَ الأعمالِ وتخرقُ الصيام.
والقصدُ من زكاةِ الفطرِ كذلك التوسعةُ على المساكينِ، والفقراءِ المعوزين، وإغناؤهم يومَ العيد عن السؤالِ والتطوف، الذي فيه ذلٌّ وهوانٌ في يوم العيد الذي هو فرحٌ وسرورٌ؛ ليشاركوا بقيةَ الناسِ فرحتَهم بالعيد.
وكم أثنى ربنا تبارك وتعالى على الذي يتصدقونَ على الفقراءِ والمساكينَ ويطعمونَهم الطعامَ، قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: 8 - 13].
وهي فرضٌ، تجبُ على الذكرِ والأنثى، والصغيرِ والكبيرِ من المسلمين، كما في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - المتفق عليه: (فرضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفطرِ، صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من شعيرٍ، على العبدِ والحرِّ، والذكرِ والأنثى، والصغيرِ والكبيرِ من المسلمين)().
وإخراجها عن الأطفالِ وغيرِ المكلفينَ والذينَ لم يصوموا لعذرٍ من مرضٍ أو سفرٍ داخلٌ في الحديث، وتكونُ طهرةً لأولياءِ غيرِ المكلفين، وطهرةً لمن أفطرَ لعذر، على أنه سوفَ يصومُ إذا زال عذرُه، فتكون طهرةً مقدمةً قبلَ حصولِ الصومِ أو قبل إتمامِه.
وأما الأصنافُ التي تُخرِج منها صدقةُ الفطرِ، ففي حديثِ أبي سعيدٍ رضي الله عنه في الصحيحين قال: (كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ)(). والأقِط: اللبنُ المحمضُ يجمدُ حتى يستحجرَ ويطبخُ أو يطبخ به.
وصدقةُ الفطرِ تخرجُ من طعامِ البلدِ، صاعًا من قوتِ البلد، أيًا كان قوته.
وصدقةُ الفطرِ إنما هي للمساكينِ خاصةً، وليست لسائرِ أصنافِ أهلِ الزكاةِ الثمانية؛ لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - الصحيحِ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال في صدقة الفطر: (وطعمةٌ للمساكينِ)()، وهذا ما رجحه جماعةٌ من أهل العلمِ، كابن تيمية، وابن القيم- رحمهما الله-.
أما عن تقسيمِ زكاةِ الفطر على عدةِ فقراءٍ فلا بأس بذلك، فإذا كانَ الفقراءُ كثيرين جازَ أن تفرقَ عليهم زكاةُ شخصٍ واحد، كما يجوز أن يعطى الفقيرُ الواحدُ زكاةَ عددٍ من المزكين، والله أعلم.
وتؤدَّى صدقةُ الفطر قبلَ الخروجِ لصلاةِ العيدِ، كما في الحديث المتفق عليه عن ابن عمر -رضي الله عنهما - أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَ بزكاةِ الفطرِ، قبلَ خروجِ الناسِ إلى الصلاة().
ومن أداها قبلَ العيدِ بيومٍ أو يومين فلا حرجَ، كما جاءَ في البخاري: (وكانَ ابنُ عمر - رضي الله عنهما - يعطيها الذين يقبلوﻧَﻬا، وكانوا يعطونَ قبلَ الفطرِ بيومٍ أو يومين)().
ولا يجوزُ تأخيرهُا عن صلاةِ العيدِ، فإن أُخرتْ عنها فإنما هي صدقةٌ من الصدقاتِ، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: (مَنْ أدَاها قبلَ الصلاةِ؛ فهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومَنْ أدَّاها بعدَ الصلاةِ؛ فهي صَدَقَةٌ من الصدقات)().
ومن السُّنةِ أن يكونَ لها من تجمع عنده؛ فقد وكَّل النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة رضي الله عنه قال: (أخبرني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن أحفظَ زكاةَ رمضان)().
إن المسلمَ لا يعيش لنفسِه أبدًا، لا يعرفُ الإسلامُ هذه الأنانية، والنبي صلى الله عليه وسلم ربَّى المجتمعَ الأولَ على بذلِ الخيرِ للآخرين وحملِ همومهم، بل ضربَ مثلًا رائعًا للمجتمعِ المسلمِ، حين قال: (مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفِهمْ ، مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى)().
هو مجتمعٌ يرحمُ القويُّ فيه الضعيف، ويرفقُ الكبيرُ فيه بالصغير، ويعطفُ الغنيُّ فيه على الفقير، ويعطي القادرُ فيه ذا الحاجة.
والنبي صلى الله عليه وسلم كانَ أجودَ الناسِ، وكانَ أجودَ ما يكونُ في رمضانَ حين يلقاه جبريل، كان أجودَ بالخيرِ من الريحِ المرسلة().
والمؤمن عندما يكون صائمًا متصدقًا، يكون قد جمعَ من خصالِ الخيرِ والبرِّ ما يدخلُه الجنةَ، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا) قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه: أَنَا. قَالَ: (فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً) قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه: أَنَا. قَالَ: (فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا) قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه: أَنَا. قَالَ: (فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا) قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه: أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا اجْتَمَعْنَ فِى امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ)().
وهكذا كان أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم والسلفُ الصالح رضوان الله عليهم أجميعن، يطعمونَ الطعامَ، ويقدمونَه على كثيرٍ من الأعمالِ، وهم بجانبِ ما ينالون من أجرٍ وثوابٍ، فإنهم يكسبونَ قلوبَ إخوانِهم ويتوددونَ إليهم، والنفوسُ جبلتْ على حبِّ من أحسنَ إليها، وبذلك تقوى على الأخوةِ، ويزادادُ الحبُّ في الله تعالى رسوخًا ومتانة.
وإياك أخي أن تتبعَ صدقتَك بالمنِّ والأذى، والسمعةِ والرياء، فإنَّ ذلك يبطلُ الصدقة، ويمحقُ ثوابَها ويرودُك الموارد المهلكة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264].
لأن المنَّ فيه نزعةُ لؤمٍ، وشهوةٌ خسيسة، لأن المنان تستهويه رغبةٌ في الاستعلاءِ والتكبرِ، أو رغبةٌ في إذلالِ المسكينِ المتصدقِ عليه، أو رغبةٌ في السمعةِ والرياء، فإنفاقه إذًا ليتوجه الناسُ إليه ويثنوا عليه، لا لوجهِ الله تعالى.
إن قلبَ المنانِ قد غلفَ بالرياء، وأحاسيسُه لم تذق نداوةَ الإيمانِ وبشاشته، شبه ربُّنا قلبَه بالحجرِ القاسي الأملسِ قد غطي بترابٍ خفيفٍ، يحجبُ قسوتَه وصلادَته عن أعينِ الناسِ، ولكن إذا أصابه المطرُ فإنه سينكشفُ للناظرينَ بقسوتِه وجمودِه وصلادتِه، وإذا به لا يثمرُ ولا ينبتُ زرعًا.
ولذلك فإن المتصدقَ المرائي المنان توعدَه الحقُّ عز وجل بعذابٍ أليمٍ، كما جاءَ على لسانِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه أبو ذر رضي الله عنه: (ثلاثةٌ لا يكلمُهم اللهُ يومَ القيامةِ ولا ينظرُ إليهمْ ولا يزكيهمْ ولهمْ عذابٌ أليمٌ)، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثَ مرات، قال أبو ذر: خابوا وخسروا من همْ يا رسول الله؟ قال: (المسبلُ، والمنانُ، والمنفقُ سلعتُه بالحلفِ الكاذبِ)().
almagdy3@gmail.com
الهوامش:
([2]) رواه أبو داود (1427)، وحسنه الألباني.
([3]) متفق عليه، رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب فرض صدقة الفطر، رقم: 1503، ورواه مسلم كتاب زكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين، 984.
([4]) متفق عليه ، رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب فرض صدقة الفطر، رقم: 1506، ورواه مسلم كتاب زكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين، 1435.
([5]) رواه أبو داود (1609) وصححه الألباني.
([6]) متفق عليه، رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة قبل العيد، رقم 1509، ورواه مسلم، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر، 984.
([7])متفق عليه ، رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب فرض صدقة الفطر، رقم: 1511، ورواه مسلم كتاب زكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين، رقم 1440.
([8]) رواه أبو داود (1427)، وحسنه الألباني.
([9]) رواه البخاري، (2187).
([10]) رواه مسلم، (2586).
([11]) متفق عليه، رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، كيف كان بدء الوحي، رقم: 6، ورواه مسلم، كتاب الفضائل، باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، رقم 2308.
([12]) رواه مسلم، (1028).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.