الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فمن خصائِصِه صلى اللهُ عليه وسلم أنَّ الكذبَ عليه ليسَ مثل الكذبِ على غيرِه، روى الشيخان في صحيحيهما عنْ أبي هريرة - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((مَنْ كَذبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبوأ مقْعَدَهُ مِنَ النارَ))([1]).
قالَ الإمامُ النووي: (فِي هذا الحديثِ تعظيمُ تحريمِ الكذبِ عليه - صلى اللهُ عليه وسلم - وأنَّه فاحشةٌ عظيمةٌ، وموبقةٌ كبيرةٌ، ولكن لا يَكْفُرُ بهذا الكذبِ إلَّا أن يستحلَّه، هذا هو المشهورُ مِنْ مذهبِ العلماءِ)([2]).
وقالَ الحافظُ في الفتحِ: (وقَدْ رُوي الحديثُ عَنْ ثلاثةِ وثلاثين صحابيًّا بأسانيد صحاحٍ وحِسَانٍ، خلا الضعيفةِ وَالسقاطةِ، وقدْ اعتنى جماعةٌ مِنَ الحفاظِ بجمعِ طُرُقِهِ، فأولُ ما وقفتُ على كلامِه في ذلكَ علي بن المديني ...، وقدْ جمعَ طرقَه ابنُ الجوزي في مقدمةِ كتابِ "الموضوعات" فجاوزَ التسعين .... وقالَ أبو موسى المديني: "يرويه نحو مئة مِنَ الصحابةِ"، ونقلَ النووي أنَّه جاءَ عنْ مائتين مِنَ الصحابةِ.
ولأجلِ كثرةِ طُرقهِ أطلقَ عليه جماعةٌ أنه متواترٌ، ونازعَ بعضُ مشايخِنا في ذلكَ، قالَ: لأنَّ شرطَ التواترِ استواءُ طرفيه وما بينهما في الكثرةِ، وليستْ موجودةً في كلِّ طريقٍ منها بمفردِها، وأُجيب بأنَّ المرادَ بإطلاقِ كونِه متواترًا روايةُ المجموعِ عَنْ المجموعِ مِن ابتدائِه إلى انتهائِه في كُلِّ عصرٍ، وهذا كافٍ في إفادةِ العلمِ)([3]).
فإنْ قيلَ: الكذبُ معصيةٌ إلَّا ما استُثْنِيَ في الإصلاحِ وغيرِه، والمعاصي قَدْ توعدَ عليها بالنارِ، فمَا الذي امتازَ به الكاذبُ على رسولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - مِنَ الوعيدِ على مَنْ كَذَبَ على غيرِه؟
فالجوابُ عنه مِنْ وجهين، كمَا قالَ الحافظُ في الفتحِ:
(أحدُهُما: أنَّ الكذبَ عليه يكفرُ مُتَعَمِّدُهُ عِند بعضِ أهلِ العلمِ، وهوَ الشيخ أبو محمد الجويني، لكنْ ضعَّفَهُ ابنُ إمامِ الحرمين ومَنْ بعدَه، ومالَ ابنُ المنير إلى اختيارِه، وَوَجْهُهُ بأنَّ الكذبَ عليه في تحليلِ حرامٍ مثلًا لا ينفكُّ عَنْ استحلالِ ذلكَ الحرامِ أوْ الحملِ على استحلالِه، واستحلالُ الحرامِ كُفْرٌ، والحملُ على الكفرِ كُفرٌ، وفيما قالَه نظرٌ لا يخفى، والجمهورُ على أنَّه لا يكفرُ إلَّا إذا اعتقدَ حلَّ ذلكَ.
الثاني: أنَّ الكذبَ عليه كبيرةٌ، والكذبُ على غيرِه صغيرةٌ، فافترقَا، ولا يلزمُ مِنَ استواءِ الوعيدِ في حَقِّ مَنْ كذبَ عليه أوْ كذبَ على غيرِه أنْ يكونَ مَقَرُّهُما واحدًا، أو طولُ إقامتِهما سواءً، فقدْ دَلَّ قولُه - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((فَلْيَتَبَوأْ)) على طولِ الإقامةِ فيها، بَلْ ظاهرُه أنَّه لا يخرجُ منها لأنْ لمْ يُجْعَلْ لَه منزلًا غيرُه، إلَّا أنَّ الأدلةَ القطعيةَ قامتْ على أنَّ خلودَ التأبيدِ مختصٌ بالكافرين)([4]).
وروى الإمامُ أحمد في مسندِه بسندٍ صحيحٍ عَنْ واثلة بن الأسقع - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم –((أَعْظَمُ الفرَى مَنْ يُقَوِّلُنِي مَا لَمْ أَقُلْ))([5]).
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.