الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ فمنْ خصائصِه صلى اللهُ عليه وسلم أنَّ المصلي يخاطبُه وهوَ في صلاتِه، روى الشيخان في صحيحيهما عنْ عبدِ اللهِ بن مسعود - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: ((كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قُلْنَا: السَّلاَمُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ))([1]).
قالَ الحافظُ في الفتح: (وهذا مِنْ خصائصِه - صلى اللهُ عليه وسلم -)([2]).
وقالَ الإمامُ الترمذي في جامعِه: (حديثُ ابنِ مسعود هوَ أصحُّ حديثٍ عنْ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - في التشهدِ، والعملُ عندَ أكثرِ أهلِ العلمِ مِنْ أصحابِ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - وَمَنْ بعدَهم مِن التابعين، وهو قولُ سفيان الثوري، وابنِ المبارك، وأحمد، وإسحاق)([3]).
وقالَ الحافظُ في الفتح: (ولا اختلاف بينَ أهلِ الحديثِ في ذلكَ، ومَنْ جزمَ بذلك البغوي في شرحِ السنة([4])، ومِنْ رُجْحَانِه أنه متفقٌ عليه دونَ غيرِه، وأنَّ الرواة عنه من الثقاتِ، لم يختلفوا في ألفاظِه، بخلافِ غيرِه، وأنَّه - أي ابن مسعود رضيَ اللهُ عنه - قالَ: (أخذتُ التشهدَ مِنْ فِيِّ رسولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - ولقننِيه كلمةً كلمةً)([5]).
وروى الإمامُ مسلم في صحيحِه عنْ ابنِ عباس - رضيَ اللهُ عنهما - قالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، فَكَانَ يَقُولُ: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ))([6]).
قالَ الحافظُ ابنُ كثير: (وَمِنْ هاهنا ذهبَ الإمامُ الشافعي - رحمهُ اللهُ -، إلى أنَّه يجبُ على المصلي أنْ يصليَ على رسولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - في التشهدِ الأخيرِ، فإنْ تركَه لم تصحْ صلاتُه، وقدْ شرعَ بعضُ المتأخرين منَ المالكيةِ وغيرِهم يُشَنِّعُ على الإمامِ الشافعي في اشتراطِه ذلكَ في الصلاةِ، ويزعمُ أنَّه قدْ تفردَ بذلكَ.
وحَكَى الإجماعَ على خلافِه أبو جعفر الطبري، والطحاوي، والخطابي، وغيرُهم، فيما نقلَه القاضي عياض، وقدْ تعسفَ القائلُ في ردِّه على الشافعي، وتكلَّف في دعواه الإجماعَ في ذلكَ، وقالَ ما لم يُحِطْ به علمًا.
فإنَّه قدْ روينا وجوب ذلكَ، والأمرُ بالصلاةِ على رسولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - في الصلاةِ كمَا هو ظاهرُ الآيةِ، ومفسرٌ بهذا الحديثِ عنْ جماعةٍ من الصحابةِ، منهم: ابن مسعود، وأبو مسعود البدري، وجابر بن عبد الله، ومن التابعين: الشعبي، وأبو جعفر الباقر، ومقاتل بن حيان.
وإليه ذهبَ الشافعيُّ، لا خلافَ عنه في ذلك ولا بينَ أصحابِه أيضًا، وإليه ذهبَ الإمامُ أحمدُ أخيرًا فيما حكاه عنه أبو زرعة الدمشقي بِهِ، وبه قالَ إسحاقُ ابن راهويه، والفقيهُ الإمامُ محمد بن إبراهيم المعروفُ بابن المواز المالكي، رحمهُم اللهُ.
حتى إنَّ بعضَ أئمةِ الحنابلة أوجبَ أنْ يقالَ في الصلاةِ عليه صلى اللهُ عليه وسلم كمَّا علمَهم أنْ يقولوا لما سألوه، وحتَّى إنَّ بعضَ أصحابِنا أوجبَ الصلاةَ على الآلِ ممنْ حكاه البندنيجي، وسليم الرازي، وصاحبُه نصر بن إبراهيم المقدسي، ونقلَهُ إمامُ الحرمين وصاحبُه الغزالي قولًا عنْ الشافعي، والصحيحُ أنَّه وجهٌ، على أنَّ الجمهورَ على خلافِه، وحكوا الإجماعَ على خلافِه، وللقولِ بوجوبِه ظواهرُ الحديثِ، واللهُ أعلم)([7]).
الهوامش:
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.