الحمد لله والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛ فالأولى البدار بأداء الفرض في أول الوقت، بعد الفراغ من راتبتها القبلية - وهي أربع ركعات بسلامين - ما لم يكن ثَم حر، فيستحب الإبراد حينئذ، وهكذا جميع الصلوات الخمس، يستحب أداؤها في أول الوقت، سوى الظهر حال الإبراد كما تقدم، والعشاء ما لم يشق على الناس، وسيأتي إن شاء الله ذكره في مكانه بحول الله وعونه، الأصل في ذلك ما دلت عليه الأخبار، وهو فعل النبي عليه الصلاة السلام الراتب.
وقد أخرج البخاري من طريق عوف، عن سيار بن سلامة، قال: دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه -، فقال له أبي: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يصلي المكتوبة؟ فقال: "كان يصلي الهجير، التي تدعونها الأولى، حين تدحض الشمس"[1].
وأخرج مسلم من طريق شعبة، عن سماك، عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه -، قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر إذا دحضت الشمس"[2] أي زالت.
وعند البخاري من طريق عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس"[3].
وأما استحباب الإبراد: فهو عام في الحضر والسفر، في الظهر خاصة.
وليس في الجمعة إبراد: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها عقب الزوال.
قال في منهاج السنة ما نصه: "وأما يوم الجمعة فالصلاة عقب الزوال أفضل، ولا يستحب الإبراد بالجمعة؛ لما فيه من المشقة على الناس"[4]
وقال في شرح العمدة: "وأما الجمعة فالسنة أن تصلى في أول وقتها في جميع الأزمنة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها في أول الوقت شتاء وصيفا، ولم يؤخرها هو ولا أحد من أصحابه، بل ربما كانوا يصلونها قبل الزوال؛ وذاك لأن الناس يجتمعون لها، إذ السنة التبكير إليها، ففي تأخيرها إضرار بهم"[5].
ولذا قال البخاري في صحيحه: "باب الإبراد بالظهر في شدة الحر"، ثم روى من طريق صالح بن كيسان، حدثنا الأعرج عبد الرحمن، وغيره، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، ونافعٌ مولى عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أنهما حدثاه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم"[6].
ثم قال: "باب الإبراد بالظهر في السفر" وأخرج من طريق زيد بن وهب، عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه -، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أبرد» ثم أراد أن يؤذن، فقال له: "أبرد" حتى رأينا فيء التلول، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة"[7] والخبر الأول أخرجه الستة.
وفيه من الفوائد: أن الشارع يراعي المزية الراجعة إلى صلب العبادة وذاتها على المزية الراجعة إلى زمان العبادة أو حتى مكانها - ما داما باقيين - وهي قاعدة شريفة لها صور عديدة.
فائدة: قال ابن رجب في شرح البخاري: "وهذا يدل على أن شدة الحر عقيب الزوال من أثر تسجرها، فكما تمنع الصلاة وقت الزوال، فإنه يستحب تأخرها بعد الزوال حتى يبرد حرها ويزول شدة وهجها؛ فإنه إثر وقت غضب، والمصلي يناجي ربه، فينبغي أن يتحرى بصلاته أوقات الرضا والرحمة، ويجتنب أوقات السخط والعذاب، وعلى هذا فلا فرق بين المصلي وحده وفي جماعة أيضا، والأمر بالإبراد أمر ندب واستحباب، لا أمر حتم وإيجاب، هذا مما لا خلاف فيه بين العلماء"[8].
قال الشيخ البسام في تيسير العلام ما نصه: فائدة: قال شيخنا عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي عند كلام له على هذا الحديث: "ولا منافاة بين هذا وبين الأسباب المحسوسة، فإنها كلها من أسباب الحر والبرد كما في الكسوف وغيره. فينبغي للإنسان أن يثبت الأسباب الغيبية التي ذكرها الشارع، ويؤمن بها ويثبت الأسباب المشاهدة المحسوسة، فمن كذب أحدهما، فقد أخطأ"[9].
في حد الإبراد
فإن قيل فما حد الإبراد؟
فالجواب عنه: أن يقال: أحسن ما في الباب ما أخرجه أبو داود من طريق أبي مالك الأشجعي سعد بن طارق، عن كثير بن مدرك، عن الأسود، أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "كانت قدر صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام، وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام"[10].
وهذا في المدينة النبوية - حرسها الله - يقتضي أن صلاة الظهر تقع في آخر الربع الثالث من وقت الظهر إلى أول الرابع.
وهذا يلتقي تماما مع ما ذكره النووي في المجموع: "إن قامة الإنسان ستة أقدام ونصف بقدم نفسه"[11].
فلو قدر أن أذان صلاة الظهر الساعة الثانية عشرة تماما وخروجه الثالثة، فيكون وقت الإبراد في الثانية والربع قبلها بقليل، وهو آخر الربع الثالث، وبعد ذلك بقليل وهو أول الربع الرابع، فربع الوقت: ساعة إلا ربع بساعاتنا.
وقال أبو العباس في شرح العمدة ما نصه: "وينبغي أن يقصد في الإبراد بحيث يكون بين الفراغ منها وبين آخر الوقت فصل؛ لأن المقصود من الإبراد يحصل بذلك؛ ولهذا فإن في حديث أبي ذر - رضي الله عنه -، حتى رأينا فيء التلول". وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام "رواه أبو داود، ولأن الإبراد الشديد يخاف معه أن يفعل بعض الصلاة بعد خروج الوقت. والله أعلم" [12].
قلت: وهو متحقق فيما قررت بحمد الله.
إذا شرع الإبراد للظهر شرع تأخير الأذان معه
وإذا شرع الإبراد بالصلاة شرع تأخير الأذان معه، وهذا مبني على أصل شرعية الأذان، هل هو للإعلام بدخول الوقت؟ أو للاجتماع لأداء الصلاة؟ والصحيح الثاني، ودل عليه حديث أبي ذر المتقدم.
قال الحافظ في الفتح ما نصه: "فإن قيل الإبراد للصلاة فكيف أمر المؤذن به للأذان؟ فالجواب: أن ذلك مبني على أن الأذان هل هو للوقت أو للصلاة؟ وفيه خلاف مشهور، والأمر المذكور يقوي القول بأنه للصلاة" [13].
وقال في الشرح الممتع: "لأن الأذان لا يتقيد بأول الوقت؛ ولهذا إذا شرع الإبراد في صلاة الظهر شرع تأخير الأذان أيضا"[14].
الهوامش:
[1] صحيح البخاري(547).
[2] صحيح مسلم(618).
[3] صحيح البخاري(904).
[4] منهاج السنة (8/310).
[5] شرح العمدة (1/201).
[6] صحيح البخاري(533).
[7] صحيح البخاري(539).
[8] فتح الباري لابن رجب(4/424).
[9] تيسير العلام(1/196).
[10] سنن أبي داود(400).
[11] المجموع(3/29).
[12] شرح العمدة(1/102).
[13] فتح الباري(2/20).
[14] الشرح الممتع(2/40).
اضف تعليق!
اكتب تعليقك
تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.